وحين أذكر نظرة التحدي التي كنت ألمحها في كل عين تذرف الدمع يوم رحيله أدرك منها أنها كانت عازمة على أن هذا المشروع الوطني القومي التحرري الذي تركه فينا لابد أن يستمر ولن يسقط في مهب الرياح العاتية وأن من يحمل لواءه لابد أن يكون من مدرسة القائد بامتياز وأدرك إصرار هذه الجماهير على أن خيارها هو في الرئيس بشار الأسد قائداً لمسيرتها ومن سيحمل آمالها إلى آفاق المستقبل المنشود.
وهكذا مسحت عزيمة التحدي والإصرار على عدم الخروج عن ثوابتنا الدمعة من المآقي منذ ذلك التاريخ وما زالت حتى هذا اليوم من مرور الذكرى, وحين تعود بي الذاكرة إلى يوم الرحيل والساعات الحزينة للتشييع, وقد كنا بضعة من أعضاء مجلس الشعب ودون اختيار في موكب التشييع صممنا يومها بالرغم من كل الزحام والمعاناة على أن نصل إلى قصر الشعب حيث سجي جثمانه الطاهر لإلقاء النظرة الأخيرة عليه وقراءة الفاتحة وحملنا الموكب إلى هناك أملاً في أن يكون لنا شرف هذا اللقاء الأخير.
وبقينا ننتظر فرصة الدخول وقد شاهدنا العديد من الوفود الرسمية العربية وغير العربية تصل تباعاً إلى القصر حتى وصول بعض الوفود اللبنانية, عندها وبعد طول انتظار تمكنا من الدخول.
وفي قاعات الانتظار في الداخل وجدنا الكثير من الوفود ومن مختلف الأطياف وأذكر فيما أذكر على سبيل المثال لا الحصر تمام سلام ووليد جنبلاط والسيد حسن نصر الله والشهيد المرحوم رفيق الحريري ومن معهم من القوى السياسية إضافة للكثير من القوى السياسية اللبنانية المسيحية والإسلامية وقد وحدتهم جميعاً معنا نظرة الأسى التي كانت بادية على الجميع, وهم يفتقدون قائداً حرص على أن يكون على مسافة واحدة من الجميع, وحين باتت الغلبة في الصراع الدائر على الساحة اللبنانية آنذاك لبعض الأطراف المسلحة آلى على نفسه أن يرجع كل طرف إلى حدود حجمه وموقعه, وعلى أن يكون المسيحي في لبنان على نفس السوية مع مواطنيه المسلمين وقالها قبل أن تقولها أميركا وشيراك اليوم طبقاً لمصالحهم مؤكداً وقوفنا مع لبنان حتى يبقى لأبنائه على السواء, وحتى لا تشكل الطائفية مرضاً لا يمكن التخلص منه كما تغذى في عراق الاحتلال اليوم وتنتفي قواسم التعارف والمحبة بين أبناء الشعب الواحد.
ويوم تفتحت شهية العدو لابتلاع أرض لبنان ومياهه وخيراته كان السند لمقاومته حتى استرجاع ما حاول العدو اغتصابه ولا يزال ومزجنا الدم بدماء أشقائنا للدفاع عن حقوقهم لا سلبهم مقدرات الدفاع عن هذه الحقوق كما يروج لذلك على ساحة لبنان بدعة ما يسمى بحلفاء اليوم.
وفي يوم التشييع كانت نظرة الأسى والحزن تحملها عيون الرجال وأولهم الشهيد رفيق الحريري وهم يلقون نظرتهم على من حمل على عاتقه مسألة قيامة لبنان بأبنائه حتى يعود قوياً معافى بمؤسساته في داخله وفي محيطه, وعندما تعود بي الذاكرة قليلاً إلى الوراء أجد بأنه كم كنا نفكر بنظرة الدلال التي خصّ بها لبنان وتحمل أعباءها شعبنا من أجله ولا أجد تسمية لها أقل من ذلك والتي لا مطمع لنا من ورائها سوى منعته وفقاً للرؤية البعيدة والحكيمة التي يتعامل بها القائد الخالد رحمه الله مع قضايا أمته, وكم من مشروع قانون فكرنا به كثيراً أثناء مناقشته في مجلس الشعب لأننا لم نجد فيه سوى مصلحة لبنان أمام مصالحنا, وكم من قرار حمله إلينا المجلس الأعلى السوري اللبناني آنذاك هو لمصلحة لبنان ووافقنا عليه وربما على مضض من مشاريع مياه وكهرباء ونقل وتزويد بالوقود إلى آخر ما تحمله القائمة من المسائل الحيوية والحياتية وليس لنا في ذلك إلا شهامة الأخوة ونبل المساعدة وحسن الجوار, يحكمنا في ذلك منطق دولة المؤسسات التي قامت فينا ونمت بأخلاقيات ومبادئ ثابتة منذ عشرات السنين وليس منطق الدكاكين الذي حكم البعض اليوم في لبنان وفي خضم ذلك.
كيف اقنع تلك العجوز التي كانت تبكي ابنها الذي استشهد صوناً لتراب لبنان وهي تشعر بأن دمه ذهب فداء لبنان,. وقد انكروا عليه تضحيته وهي تسمع وترى ما يحاك ويقال من نعيق لا يهدأ لبعض الأصوات وأحاول جاهدة إقناعها أن الشرفاء كثر وهم أبعد من أن يملى عليهم أو يخدعوا أو ينسوا, وبأننا نحمل على أكتافنا مشروعاً عربياً بالتحرر والنهوض معاً رسمه لنا قائد سيبقى فكره الخالد علماً نهتدي بضيائه كلما طال ليل الأمة الحالك وأن المشعل لا يزال يحمله من آمن بأن هذا الليل لابد أن ينتهي وأن الغد هو لمن لا يثنيه عن طريقه لؤم العداة وكثرة الطغاة.
إن الهم العربي واحد لابد من أن نتقاسمه جميعاً لا محالة, وإلا بماذا يفسر وقوفنا بكل شفافية مع الأخوة الفلسطينيين في محنتهم دون الخشية من لومة لائم كما يخشى الكثيرون, وستبقى ذكرى القائد الخالد حافظ الأسد خالدة في أذهاننا وديناً في أعناقنا حتى تحقيق آخر أمانيه في نصرة الأمة وعزة الوطن.