ونحيله إلى نزار قباني الشاعر الذي ملأ الدنيا عطاء ونقل عطر الياسمين الدمشقي إلى حيث كان في الأندلس , في بلاد الضباب إلى سورالصين العظيم إلى كل مكان .
من على فراش المرض خط نزار قصائد مغمسة بنور الألم إن كان للألم نور وهو ليس الوحيد بين المبدعين ممن كتبوا وهم يصارعون المرض ,قبله كتب بدر شاكر السياب وأيضا كتب سعدالله ونوس وآخرون كثر.
نزار قباني في الجديد الذي صدر في بيروت عن منشورات نزار قباني تحت عنوان (أبجدية الياسمين) وقد جمعه أبناؤه هدباء وزينب وعمر, في هذا الجديد يتألق نزار دائما لا يخاف الموت يستعيد الجمال ويعيد خلقه يكافىء الجماهير التي أحبته يكتب لها..
أبجدية الياسمين لا يمكن اختزاله فقارورة العطر التي هي مساحة هذه المجموعة لا تختزل ببضع قطرات وإن كنا سنحاول رش البعض منها, فقارورة العطر موجودة ولعل ضوعها يشد القارىء إليها ويبحث عنها فهي ليست ببعيدة .
الوطن حول سريري
تحت هذا العنوان تأتي مقدمة المجموعة يكتب نزار قائلا : عندما فتحت عيني في غرفة الإنعاش في مستشفى سان توماس في لندن بعد الأزمة القلبية الخطيرة التي أصابتني لم أصدق ماتراه عيني .
فقد كان الوطن العربي كله جالسا قرب سريري يذرف الدموع ويضرع إلى الله كي يعيد إلى قلبي السلامة والعافية.
كان مشهدا خرافيا لاقدرة لي على تصويره فكيف يمكنني أن أتصور أن مئتي مليون عربي يمكنهم أن يحتشدوا في غرفة ضيقةو يشغلوا بشاعر عربي مريض ?..
هل يكفي أن أكون واحدا من الشعراء العرب حتى يأتي الوطن كله, بأرضه وسمائه وأشجاره وأنهاره وبحاره ورجاله ونسائه وأطفاله ليدافع عن حياتي ويمسح العرق عن جبيني ويؤدي صلاة جماعية من أجل نجاتي ?
هل كتابة الشعر وحدها تعطيني مثل هذا الامتياز العظيم? إنني لا أميل إلى هذا الرأي .
فالشعراء العرب أكثر من نجوم السماء ورمل الصحارى وعشب البراري .
أمسكت مجدي بيدي
ويضيف قائلا ومنوها بالذبحة القلبية التي جعلته يطل من عليائه ويرى المجد الذي تحقق له:
لقد كانت ذبحة القلب التي أصابتني أخيرا -على خطورتها -حدثا رائعا وجميلا,لأنها أرتني قبل أن أموت أبعاد مجدي كما أرتني أن بذور الحب التي زرعتها على مدى خمسين عاما في تراب الوطن قد ملأت الدنيا باللون الأخضر من المحيط إلى الخليج .
لقد علمتني ذبحة القلب أن كتابة الشعر ليست مجرد نزهة في ضوء القمر أو حفلة ألعاب نارية ولكنها رحلة باتجاه الهاوية فإذا أخذني الوطن بين ذراعيه وسهر طول الليل قرب سريري فلأنني خلال خمسين عاما كنت ضمير الناس ووجدانهم وكنت صوت العشاق والثوار والأحرار والمناضلين كما كنت صوت النساء وسيفهن المسلول.
خمسون عاما مع الناس,كل الناس, كبيرهم وصغيرهم, غنيهم وفقيرهم,قويهم وضعيفهم حتى صار شعري جزءا من حياة الناس وكلامهم وطعامهم وشرابهم وتنفسهم إنني نزفت طويلا على أوراقي ودفعت ضريبة الشعر من جسدي ومن صمتي إلا أنني بالمقابل اعترف لكم أنني أخذت من حب الناس ما لم يأخذه أي شاعر آخر.
لقد كنت أول شاعر عربي يمسك مجده بأصابعه وهو على قيد الحياة ويرى حفلة عرسه بواسطة البث المباشر لا بواسطة شريط فيديو.
القصائد الأخيرة :
في أول القصائد التي تأتي تحت هذا العنوان يكتب شاعرنا تحت عنوان تعب الكلام من الكلام قائلا:
الشعر غادرني
فلا بحر بسيط ..أو خفيف ..أو طويل
والحب غادرني
فلا قمر ...
ولا وتر ....
ولا ظل ظليل ...
لم يبق شيء في يدي
هربت عصافير الطفولة من يدي ...
هربت حبيباتي ...
وذاكرتي ....
وأقلامي ...
وأوراقي ...
وأقفرت الشواطىء والحقول ...
وربما تذكرنا هذه المقاطع .بما قاله الأخطل الصغير شاعر الهوى والشباب يوم بكى الشعر الذي كان طوع بنانه فإذا به ينفر منه (ما للقوافي إذا جاذبتها نفرت مني) ..
ولكن نزارا ظلت القوافي تغازله وتلاحقه حتى شهقة الياسمين الأخيرة .
قصائد المجموعة تحمل رسالة حب أخيرة تؤكد أن شاعرنا عاش للحب الانساني ناثرا إياه في دروب الحياة أينما اتجه يجعل من موضوع الحب دراسة مقارنة يقول في قصيدته في الحب المقارن :
إني أحبك
كي أؤكد صورتي
وحضارتي
فأنا افرق دائما
بين الثقافة والسرير
وهي تبادله الحب ذاته تعترف بجمال حبه وروعته تسمو بهذا الحب. فتحت عنوان رسالة جديدة من صديقة قديمة يكتب قائلا:
يا رجل الرجال ...
يا أيقونة في عنقي علقتها
يا قهوة العشق التي
من يوم أن ولدت ..قد أدمنتها
يا أحرفا من فضة
كنت على دشداشتي السوداء
قد طرزتها ...
يا وردة جورية
في بؤبؤ العينين
قد زرعتها
شعر اليوم فضيحة
في قصيدة من أروع قصائد المجموعة حملت عنوان (طعنواالعروبة في الظلام بخنجر فإذا هم بين اليهود يهود) يكشف عن الواقع العربي الرديء ويعري السياسات المتخاذلة والإبداع الأكثر تخاذلا ولاسيما شعر هذه الأيام يقول :
الشعر,في هذا الزمان ..
فضيحة..
والحب, في هذا الزمان ...
شهيد ..
مازال للشعر القديم نضارة ...
أما الجديد ..
فما هناك جديد!!
لغة...بلا لغة...
وجوق ضفادع ...
وزوابع ورقية
ورعود...
هم يذبحون الشعر ....
مثل دجاجة ...
ويزورون ...
وما هناك شهود!!..
القصيدة الأخيرة في المجموعة كانت في آذار 1998 وقد جاءت دون عنوان مطلعها :
ما تراني أقول ليلة عرسي ?
جف ورد الهوى ونام السامر
ما تراني أقٍول يا أصدقائي
في زمان تموت فيه المشاعر
لم يعد في فمي قصيدة حب
سقط القلب تحت وقع الحوافر
ألف شكر لكم فأنتم شراعي
وبحاري والغاليات الجواهر
للمليحات كل حبي وشكري
فلقد كن في حياتي الأزاهر
الحضارات كلها شغل أنثى
والثقافات من رنين الأساور
تزرع المرأة السنابل والورد
ويبقى كل الرجال عشائر
خلاصة القول :
لم يترك نزار ورقة من الوصفات الطبية إلا عطرها بمداد قصائده وجمع الأبناء ماكتبه فإذا به عطر يضوع كما تضوع يوميات شباك دمشقي العمل الذي نشر بخط يده وبمسوداته في نهاية المجموعة .
بقي أن نشير إلى أن المجموعة صدرت عن منشورات دار نزار قباني ودار نوفل في بيروت ويوزعها دار علاء الدين في دمشق .