إن أميركا اليوم أكثر شيوعية من الصين , فيما تساءل السيناتور الجمهوري الأميركي جيم باننغ معقباً على الوضع الأميركي الحالي: هل أصبحت الاشتراكية متجذرة في أميركابحيث لايمكن أن تعكس تيارها? واصفاً الإجراءات التي يطبقها وزير الخزانة الأميركي هنري بولسون أنها )اشتراكية ولذا يتعين عليه أن يستقيل لأنها لم تعد لدينا سوق حرة بعدما سيطرت الحكومة الأميركية عليها.
آراء كثيرة داخل الوسط الأميركي من أشخاص ومؤسسات ومراكز أبحاث انضموا إلى انتقاد الإدارة الأميركية برئاسة بوش على ما أوصلت إليه العالم والكل يتهمها بأنها إدارة غبية ما جعلها تتلقى سيلاً من دوامات الكراهية في شتى أنحاء العالم بصورة لم يسبق لها مثيل حتى ميلها الطائش إلى استخدامها القوة وخوض حروب دون أي مبررات كافية لشنها ودون فهم مستلزماتها مع اتباعها سياسة خارجية صممت لأجل حب السيطرة والتوسع وإحداث الفوضى.
إنها إدارة الرئيس بوش الذي أعلن أنه على صلة مباشرة بالرب, يتلقى منه التعليمات الإلهية ويهتدي بها إلى أفضل السبل لخدمة أميركا والعالم على حد زعمه وزعم نبوءته في حين أنه اليوم يتهم بأنه الاشتراكي بعد سلسلة من الإجراءات التأميمية التي أقدم عليها لمعالجة أزمة انهيار النظام المالي والاقتصادي لديه ولدى بقية العالم المرتبط به مالياً واقتصادياً وسياسياً, حتى الفريق اليميني الذي يحيط به بالأمس صار اليوم هو الفريق الأكثر تحذيراً من إجراءات بوش الذي حسب رأيهم يقود أميركا إلى السقوط.
اليساريون الأميركيون من كل مواقع القرار في الوسط الأميركي قالوا: نعم هذه اشتراكية إنما لمصلحة أغنياء أميركا ولحفظ أموالهم الخاصة وتبرير نهبهم لأموال الخزينة العامة لكن منتقدين لهؤلاء قالوا: لا تحملوا هذا الإجراء تحت مسعى الاشتراكية, فالاشتراكية لا تسرق المال العام ولا تؤمم مؤسسة واحدة أو اثنتين أو ثلاث وتترك البقية عرضة لنظام رأسمالي كي يبقى مسيطراً على مقدرات البلاد.
الانتقادات الأميركية لإدارة بوش جاءت أيضاً هذه المرة من أركان الإدارة نفسها التي كانت بالأمس تدافع عنها قائلين: إن إدارة بوش اليمينية التي ظلت طوال ثماني سنوات تخص المؤسسات والأثرياء بالإعفاءات الضريبية وتضعها على عاتق العاملين ومحدودي الدخل. تذكرت فجأة هذه الإدارة أن يكون الحل اشتراكياً لانقاذ الرأسمالية الأميركية من الإفلاس.
إنها تناقضات ليست بعدها تناقضات في إلقاء اللوم, كل طرف على الآخر في امبراطورية العم سام وهي تناقضات تعكس في الواقع مدى التخبط والفوضى والأنانية التي تحكمها في مواقع سياساتها الخارجية والداخلية على السواء. أي فريق ذاك الذي يحكم أميركا بوش منذ أحداث أيلول عام 2001 كي يكون الأعجز اليوم عن وضع الحلول الناجعة لأزمة واجهته وواجهت العالم بمصير أسوأ لم يشهده من قبل? أي بلد كهذا? أميركا حكمت العالم بجبروتها على مدار أكثر من ثلاثة عقود من الزمن تصبح اليوم الأعجز عن مكافحة ومعالجة ما أصابها من سقوط طال أكبر مؤسسات المال لديها وهي التي لها الباع الطويل في إعطاء الدروس والعبر للغير إلى وقت قريب في كيفية النهوض والنجاح والدوام على النجاح, وهي المؤسسات التي يزيد عمرها عن 159 عاماً وول ستريت وميريل لنش وفي وقت طال فيه السقوط المزيد من تلك المؤسسات المالية العريقة في إطار مسلسل يفاجئ العالم كل يوم بسقوط جديد آخر وأضرار مالية تفوق كل التقديرات لاقتصاديات العالم ولاسيما المرتبطة أو المرتهنة بالنظام الرأسمالي المالي الأميركي.
الرأسمالي الأميركي الشهير جيم روجرز أدلى بدلوه هو الآخر وقال معقباً على الحالة التي وصلت إليها الولايات المتحدة واقتصاديات دول متحالفة معها: إن الاشتراكية اليوم متجذرة في أميركا رغم أن هذه الإدارة ضخت أكثر من مئات المليارات لكن كل ذلك لن يكون سوى بمثابة رباط لاصق فوق الجرح, حتى السناتور الجمهوري جيم باننغ الذي يعتبر أن مؤسسته هي مصنع الأفكار الرئيسي لليمين الجمهوري الحاكم لأميركا ,اليوم ذهب ليقول مفاجئاً الجميع: إن إجراءات بوش تدعو للأسف لكنها ضرورية في هذا الوقت العصيب الذي تعيشه أميركا.
أما الباحث الأميركي مايكل ريني وهو المعروف بالباحث اليساري في الوسط الأميركي فقال في مقال له الشهر الماضي لأننا لا نستطيع أن نصف إجراءات بوش بأنها اشتراكية لأن الاشتراكية مبدؤها واضح وهو أن يستفيد الجميع من المواطنين وليس فئة على حساب فئة أخرى, لكن ما تتخذه إدارة بوش اليوم ليس هو الاشتراكية وإنما هو شكل آخر من الرأسمالية التي تتولى فيها الدولة حماية الأغنياء لتقيهم خسائر مؤكدة قادمة بالتأكيد.
إذاً أميركا اليوم هي أكثر من ساحة اختبار وتبادل للاتهامات, إنها في فوضى عارمة كشفت حقيقة المستور فيها من تبعثر في الطاقات والآراء والحلول وعجز ميئوس يعشش حقيقة في بنيانها المؤسساتي المالي والسياسي والاقتصادي, لكن هذه المناسبة هي فرصة إيجابية كي يطلع عليها الأميركيون أنفسهم قبل غيرهم عن هذا العملاق الهش الذي كانوا يستظلون تحت أنواره المبهرة أحياناً والفاقدة للنظر أحياناً أخرى وهذا ما حصل على أرض الواقع اليوم والجميع يقف عاجزاً من حيث لا يدري مشلول اليدين, ولعل حالة اليوم التي تمر بها أميركا هي الوجه الحقيقي لتلك الحالة الواهمة التي غررت بها العالم ومن سار في فلكها ولعلها قد تكون المناسبة المطلوبة كي ينكشف ذاك القشاع عنها وعن حقيقة نظامها وإدارته وما أوصلت إليه العالم من حروب وكوارث جعلته يعيش حالة نادرة من الفوضى والضياع والهلاك, فهل يعي الأميركيون ومن حالفهم حقيقة هذا العملاق المتهالك وما جنته أيديهم جراء تحالفهم مع هكذا حليف تائه?.