نشرت في بعض الصحف والمجلات وحوار مستجد عن إصداره الجديد الذي حمل عنوان: اعلام النقد الفني في التاريخ الذي خصني فيه بالمحتوى كأحد الذين جمعوا بين العمل الفني والكتابة الفنية (النقدية) إضافة إلى كلمة إهداء أعتز بمضمونها.
كنت في زياراتي السابقة ألتقي معه أمام متحف دمر ليصطحبني إلى منزله، لكن هذه المرة كان الاتفاق أن أصل مباشرة.. وحدث أن وصلت قريباً من المنزل قبل نصف ساعة من الموعد المحدد، فتصادف مروره بسيارته، أعلمني بعد أن ركبت إلى جانبه أنه جاء لشراء دوائه الخاص، وبعض الضرورات المنزلية.
عند باب منزله المرتفع، الذي يقود إليه درج متقطع وطويل.. توقف ليدير مفتاحه، نظر إلي وقد بدا مصفر الرجه مرهقاً، وبكلمات (راعشة) ولاهثة، قال لي: لقد بدأت أشعر بالتعب، وأفكر بمنزل آخر لا يتعبني الوصول إليه...
حزنت وللحظات كان المشهد أمامي كفيلاً بإعادة الحساب وترتيبات الحوار معه.
في الداخل وقد رحب بي، وجلست مقابلاً له... بدأ يستعيد نشاطه وحيويته وانطلق في أحاديث عامة لموضوعات متعددة بأسلوبه الآسر والمشوق ونظراته الباحثة والمسترسلة.. وطوال حديثه لم أقاطعه إلا آسفاً لاستفسارات أو مداخلات قصيرة، دون أن تغيب عن مشاعري مؤثرات المشهد الذي سبق.
وبهدوئه المعهود وجاذبية حديثه وعمق أفكاره وتماسكها، أتذكر أنه تحدث عن جراح الوطن، وفنوننا الجميلة ومستقبلها، والمعرض السنوي (الخريف) ونشاط بعض الفنانين الذي يقتصر على إنتاج لوحة واحدة في السنة لصالح المعرض ثم جاء على ذكر مؤلفه الأخير (أعلام النقد الفني).. ومغالطات البعض في فهم ما جاء في الكتاب إضافة إلى المشاريع الفنية التي عمل ولا يزال يعمل بها، ومنها اختياره خبيراً مكلفاً باقتناء العديد من الأعمال لفنانين من سورية ولبنان والأردن والعراق لصالح متحف تخصصي اقتنعت السعودية بإحداثه،...وكان لفيلمه الوثائقي عن الجامع الأموي نصيب في حديثه الذي بدا وهو يعرض تفاصيله وغاياته سعيداً بهذا الانجاز الذي يضاف إلى العديد من الأفلام التي تؤرخ لسورية الحضارة والفن والعمارة التي سبق أن قدمها للتلفزيون العربي السوري بروحية المفكر والباحث والمنتمي والمبشر.. ويواصل حديثه بعد وقفات لحظاتية فاصلة تعطي لكل موضوع أبعاده الخاصة وأهميته.
وفي السياق نفسه أشار إلى إصداره القادم الذي يعمل عليه ويضم دراسات وأبحاثاً لنشاطات متعددة ومنها توثيق لمعرضين أقامتهما (الدار للثقافة والفنون) بدروشة بإشرافه وتقديمه، الأول لنخبة من فناني حمص وآخر لفناني السويداء عام 2004.
كما أفاض في الحديث عن الاحترام والتقدير اللذين تلقاهما أعمال الفنانين السوريين في العواصم الأوروبية مشيراً في الوقت نفسه إلى ظواهر مشبوهة في محاولات بعض المؤسسات الغربية التي تستخدم الفن لدق أسافين الفرقة والتجزئة التي تعمل على إحاطة بعض الفنانين العرب بهالة مبالغ فيها من الاهتمام والرعاية والاقتناء وطباعة مجلدات ضخمة وأنيقة ومغرية لأعمالهم بصورة لا تتماشى مع حقائق الأمور وطبائعها وأشار بإصبعه إلى مجلد ضخم وأنيق لأحد الفنانين كان خارج ترتيبات مكتبته الكبيرة.
لم أشأ مقاطعته إلا عندما توقف عن الحديث لبضع دقائق كانت أشبه باستراحة مفكر للتأمل.. فأنا دائماً من تلاميذه الذين يسترقون السمع إليه باندهاش وحبور تماماً كالحالة التي كنت أعيشها يوم كان أستاذي في تاريخ الفن باللغة الانكليزية بكلية الفنون الجميلة منتصف ستينيات القرن الماضي لحظتها استأذنته في قراءة الأسئلة الستة التي حملتها إليه لنبدأ حواراً جديداً سينشر لاحقاً في إحدى الصحف أو المجلات ويضاف إلى حوارات سابقة وقادمة تتوج بإصدار يحمل عنواناً قريباً من معنى: حوارات في فنوننا الجميلة مع الدكتور /عبد العزيز علون/ الذي سبق أن أبدى موافقته على ذلك...
وللدلالة فقط أذكر بعض ما جاء في هذه الأسئلة:
< يرى البعض أن التشكيل السوري متفوق على مثيله العربي وإذا كانت هذه الرؤية سليمة.. ما أوجه هذا التفوق؟..
< البعض الآخر يرى أن التشابه قائم بين التشكيل السوري والتشكيل العربي.. بهذه الحالة ما الذي يحكم هذا التشابه ويعززه، رأيك وتعليقك على الرؤيتين، ماذا ترجح!؟
< يقولون في السياسة إن عصر العمالقة قد انتهى فهل هذا ينطبق على الفن التشكيلي؟.
ما إن انتهيت من قراءة الأسئلة حتى شعرت أن الوقت قد أخذ كلينا كثيراً... وبعيداً عن غرض الزيارة الأساسي.. فالساعة تجاوزت منتصف النهار والاستمرار لم يعد مقبولاً رغم إلحاحه بالبقاء والمتابعة وكان الاتفاق أن أعاود الزيارة بعد خمسة أيام للتشاور في متابعة الحوار واقتصاره على المحلي أو العربي أو تأجيله قائلاً: إن ظروف البلد قد لا تسمح باستيعابه بالشكل الأمثل.
وحينما هممت بالمغادرة أصر على توصيلي إلى أقرب موقف للعودة إلى دمشق.. وجدها فرصة لمتابعة الحديث وشراء دوائه الخاص- كما علق على ذلك- وكانت هذه آخر مرة أراه وآخر مرة أسمعه.. ويحزن ويؤلم أن قامة فنية وفكرية مثل الدكتور عبد العزيز علون كانت مؤتمنة على تاريخ وتأريخ الحركة التشكيلية السورية ومن أبرز قادة النقد الفني فيها ترحل عن دنيانا بصمت مستغرب وتقصير إعلامي لافت استمر لأسبوع تظهر بعده عدة كتابات وزوايا ثمنت دوره ونشاطه كرجل فكروثقافة وفن.. وكان كاتب هذا المقال قد علم صباح اليوم الثاني لوفاته باتصال من قبل الزميل أحمد أبو زينة في الوقت الذي كنت فيه أتحضر للاتصال به وإعلامه بزيارتي له حسب الموعد المتفق عليه.
الحديث عن المرحوم الدكتور عبد العزيز علون حديث عن الفن التشكيلي بكل مفاصله في الرسم والتصوير والنحت والحفر، وحديث عن النقد الفني كإبداع لا يقل عن إبداعات الفن ذاته وحديث عن الثقافة البصرية ومردودها الجمالي..
تربطني به علاقة مودة واحترام فقد كان أستاذي كما ذكرت من قبل وازدادت معرفتي به وقربي منه في صالات الفن الحديث- منتصف الستينيات- لصاحبيها /محمد دعدوش وأخيه الفنان محمود دعدوش مستمعاً لأحاديثه ومحاضراته ونقده وتعريفه بالفنانين العارضين من سوريين وعرب وأجانب.
وعندما عقد المؤتمر التأسيسي لاتحاد الفنانين العرب عام 1971 وكنت عضواً في لجنة الإعلام حثني على إجراء مقابلات مع أعضاء الوفود المشاركة لنشرها في مجلة جيش الشعب مثل الفنان الصادق قمش من تونس وعارف الريس من لبنان وضياء العزاوي من العراق وهكذا بقيت متابعاً لنشاطاته المتعددة ومستأنساً بلقائه ومتعلماً من آرائه وأفكاره.
عرف الدكتور عبد العزيز علون بتواضعه فكان شخصية قريبة إلى القلب ولا أدري لماذا ارتبطت صورته بذهني بشخصيتين محببتين كنت أذكرهما دائماً أمامه هما الكاتب والصحفي الكبير محمد حسنين هيكل والقائد العسكري البطل الفريق عبد المنعم رياض.. صدر له العديد من الكتب التحليلية التي تناول فيها بعض الفنانين السوريين أمثال محمود دعدوش، نذير نبعة، محمود حماد، نصير شورى..
كاتب موزع القلب والفكر بين الفنون الجميلة والشعر والفلسفة والسينما، عمل خبيراً ومستشاراً في الشؤون الثقافية والفنية في المشاريع الأوروبية.
وضع للسينما والتلفزيون أكثر من مئة وسبعين فيلماً وثائقياً في مجال الفنون الآثار والنقد والتاريخ ما بين 1966-2003 منها فيلم عن الفنان الشعبي أبو صبحي التيناوي وآخر عن الفنان فان كوخ..
ويعتبر مجلده التوثيقي منعطف الستينيات في تاريخ الفنون الجميلة في سورية وكتابه الإبداعات السورية في الثقافتين اليونانية واللاتينية وإصداره الأخير إعلام النقد الفني في التاريخ من أهم إنجازاته التي عكست قيمة متابعاته وانشغالاته وبالتالي صدق العطاء وزخم مؤثراته.
كتب الكثير من الدراسات والأبحاث وأجاب عن العديد من الأسئلة التي حملت رأيه في المسائل الفنية والثقافية فهو يقول مثلاً عن الهوية الثقافية بالمعنى القديم الذي نتحدث فيه تاريخياً عن مدينة صينية أو فارسية أو فرعونية فهذا صعب المنال ومستحيل التحقيق لأن الموروث هنا لا يتحول إلى تراث ولأن الأسوار الجغرافية غير مغلقة تأخذ وتعطي.. وكل ما نتحدث عنه في الوقت الحاضر من تطورات هو مجرد ملامح فنية لا تثبت أمام أكثر من جيل كذلك فنحن نميل إلى الحديث عن ظواهر الإبداع الفردي بداية القرن الحادي والعشرين والفنان الجديد المهم هو من يستطيع أن يتمرد على التيار المضطرب للفن العربي ويربط مناحي أسلوبه بجذور الإبداع الفني بوطنه.
وحول رؤيته النقدية والمعايير التي تحكمها يقول: درست تاريخ الفن في فترة مبكرة من عمري على يد /هانفورد/ أستاذ الأدب وتاريخ الفن الذي استقدم من الولايات المتحدة إلى جامعة دمشق عام 1957 ومكثت لفترة سنة أدرس تاريخ الفن في مدرسة مسائية ملحقة بالكلية الأميركية بحلب بإشراف عالم الجمال واللاهوت الياباني المشهور د. بول سيتو وكانت الدراسة على شكل مقارنات بين فن التصوير والموسيقا بقصد الكشف عن مذاهب وتيارات التعبير المشتركة والمختلفة وعدت في تاريخ النقد الفني والأدبي إلى مخابر هذا النقد فطالعت ما كتبه أفلاطون حول الفنون الجميلة والشعر ودرست أيضاً الآراء الفلسفية المتفرقة لدى المفكرين العرب اعتباراً من بداية العصر العباسي مروراً على أبي حيان التوحيدي وانتهاء بالآراء التي رافقت الخط العربي بين أبي علي محمد بن مقلة والسلطان محمود الثاني في الأستانة.. فالنقد الفني الذي أعطيته شطراً طويلاً من عمري لم يكن مجرد نزوة أقدمت عليها وإنما كان نتيجة متابعة طويلة واطلاع على ماكتبه نقاد الفن الكبار أمثال راسكني البريطاني وحرصت أن أتكلم بلغة دقيقة الدلالات معتمداً على المصطلحات المتفق عليها أو التي أقوم بتعريبها..الخ.
وفي أحد الحوارات التي أجريتها معه سابقاً أجاب عن سؤال يتعلق بما يعرف بفن التشكيل عند الشباب أو الفن الشبابي قائلاً: أتيح لي أن أطلع على إنتاج الشباب في سورية من خلال المعارض التي تقيمها لهم نقابة الفنون الجميلة (اتحاد الفنانين) وشاركت في تحكيم أعمالهم وطرحت على نفسي أكثر من سؤال لعل في طرحها بصورة علنية بعض الفائدة فأولاً كلمة الفنان الشاب التي سمي بها جميع العارضين جعلتني أعود إلى معاجم الفن ودورياته في العالم لأبحث عن المصطلح وأفشل في العثور على إجابة له..
كان في معارض الفنانين الشباب عشرات الأسماء التي تجاوزت الثلاثين من عمرها في حين أن الكثيرين من الفنانين الذين نقدرهم في تاريخ الفن توفوا في الثلاثين دون أن يذكر أنهم شباب أو كهول وإنتاج فنان كبير مثل ليوناردو دافنشي لايحدد بمنعطفات الأعمال بل بتحولات الصناعة التقنية والخبرات الفنية، فالمسألة كلها محصورة بالثقافة والخبرة وليس غير.
رحم الله الأستاذ الدكتور عبد العزيز علون الذي كنا نتفيأ بظله ونتجمل بجمالياته ونستنير بأفكاره وأبحاثه وبرحيله المفاجئ يكون التشكيل العربي والنقد الفني قد فقد علماً مهماً من أعلام الفكر والأدب والفن.. وبرحيله أيضاً يكون اتحاد الفنانين التشكيليين قد فقد صاحب النداء الأول في الدعوة لاتحاد الفنانين الذي ولدت فكرته في صالة الفن العالمي الحديث في سورية عام 1962.