وهذا يعني أن تلك الجماليات لم تعد مقتصرة على أفلام سجلت حضوراً في تاريخ هذه السينما، إذ يمكن اعتبار حضور الأخوين لويس وغوستاف لومييه في فيلميهما ( وصول القطار إلى المحطة) و (الخروج من المعمل) منذ أن اكتشف آلة السينما هما أول تسجيل حقيقي لظهور السينما الوثائقية، حتى من دون أن نستثني ذلك الرجل الذي يخلع قبعته في مشهد تمثيلي ليحيي الكاميرا ويخرج من الكادر مبتسماً، وإذا ما اعتبرنا أن فيلم (فطور الصبي) هو أول نزعة روائية في تاريخ هذه السينما، فإن أول من أشار إلى أن السينما الوثائقية ستكون مستقبل السينما نفسها هو روبرت فلاهرتي، صاحب ( نانوك رجل الشمال) فقد تمكن هذا السينمائي العبقري المتفرد، من أن يفرد لنفسه مساحة داخل هذه السينما بنوع من العناد والمكابرة والإبداعيين قاداه نحو تسجيل مواقف بحق هوليوود. دون أن يتنازل أمامها قيد شعرة في حقه بالوصول إلى الصورة التي يريد، وهكذا سجل أول إشارة مهمة في هذا الصدد برفضه عروض شركة بارامونت الهوليوودية العملاقة، بأن يضمن أفلامه الوثائقية ظهوراً لنجوم هوليووديين رأى فيهم فلاهرتي تزييفاً لهذه الجماليات حين تخضع لسلسلة من الإجراءات تقيد كل ما من شأنه الاحتفال بالإنسان الأرضي، ونزعاته نحو الحرية والقيود التي تحد من الاحتفاظ بإنسانيته، وقدرته على التنقل والعيش بكرامة وسلام، فلاهرتي، ربما بسبب من شعور طاغ بذاتية السينمائي الوثائقي الملهم كان يبادر إلى تسجيل هذا الموقف الرافض لمبادرة هوليوودية مغرية، ولكن من المؤكد أول من أشار إلى أن مستقبل السينما نفسها يكمن في الحدود التي ستفرضها السينما الوثائقية على مستقبل السينما الروائية والتوحد معها، وما يحدث اليوم من انقلابات جذرية على مستوى الصورة في العالم يؤكد مثل هذا الحضور الذي سيكون فيه نانوت رجل الشمال صاحب أول امبراطورية أرضية مصورة.
المؤلف فجر يعقوب يستعرض تاريخ الصورة الوثائقية منذ بداياتها مع دزيفا فيرتوف: الملهم الأول كما يصفه الكاتب في كتابه(جماليات الإنسان الأرضي- دراسات في السينما الوثائقية).
دور الفيلم الوثائقي
ربما يقدم تاريخ السينما نفسه معيناً لا ينضب من الإشارات حول الدور المهم والمؤصل الذي لعبته الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية في نشر الثقافة السينمائية، فبنظرة متفحصة يمكن القول إن من مهاد هذه الأفلام ولدت نظرية السينما ،وجميعنا يعرف أن نبع السينما الصافي ولد من رحم هذه الأفلام، قبل أن تتعرف الحركات والتيارات السينمائية في ذرى تطورها إلى الأنواع التي شغلت وتشغل ساحة وميادين السينما المختلفة.
صحيح أن السينما هي فن التعبير عن الواقع ، وليس هي الواقع وبحسب المخرج الإيطالي الكبير بيير باولو بازوليني الذي استغرقه الأمر طويلاً ليؤكد لنا هذا المنهج الجمالي.
فإن كثيراً من الأفلام يمكنها أن تخسر الرهان هنا لحساب هذه الأفلام المجتزأة من هذا الواقع ذلك أنه لا تعد مفاجأة بعد ذلك غياب نظرية جمالية سينمائية عربية يمكن أن تحسم الجدل من حولها وتسهم بتوطيد علاقة الفيلم بصانعه من جهة وعلاقته بجمهوره من جهة أخرى، لأن غياب النص النظري وضع هذا الفيلم في زاوية الإهمال، وأصبح صانع الفيلم العربي ينظر إليه بوصفه جسراً يعبر من فوقه في الطريق إلى الفيلم الطويل.
وترسخت قناعة مفادها أنه من دون هذه الواسطة التعبيرية لن يحظى باعتراف النقاد والصحافة السينمائية والجمهور على حد سواء.
رهانات الكاميرا الرقمية
لا يمكن الشروع بسبر أغوار الاتجاهات الجديدة في النقد السينمائي والرهانات المرتبطة بها ارتباطاً عضوياً وهي تقف مترددة ووجلة في مواجهة التطورات التقنية الهائلة التي شهدتها الصناعة السينمائية في العقدين الأخيرين، وهما العقدان اللذان شهدا تلك المزاوجة القسرية بين السينما كفن والكومبيوتر الرقمي بوصفه ذلك الفضاء الذي سيتوقف العالم أمامه مطولاً وهو في أوج رحلته العوليسية الافتراضية إذا ما صدقت رهانات بعض الفلاسفة من أننا نقف بالفعل أمام نظام رمزي متعتق من الدلالات ومحبوس فيها في نفس الوقت.
وهذا النظام هو من سيقوم بتحديد ورسم الواقع الجديد الذي نقف على عتباته في أحيان كثيرة من دون رغبة ظاهرية، وفي أحيان أخرى من دون أن نتنبه إليه، لما يمكن أن يفعله بنا في لحظة الرحلة الافتراضية هذه.
وهذه الفكرة باتت تقوى أكثر وأكثر مع ولادة الانترنت الذي لا نعرف مقاصده النهائية حتى الآن، فتصغير الشاسة إلى بضع بوصات ينهي أيضاً مشكلة طالما بدت مهمة لصانعي السينما أنفسهم، ذلك أنه يرفع منه شأن ثقافة المشاهد السينمائية فصارت سينما تستطيع أن تذهب إليها وأنت عائد إلى المنزل بحسب فرانسوا ترموفو، وبات بإمكاننا مطالعة مناظرات عن تاريخ السينما مع إيضاحات غير مسبوقة عن آخر النتاجات السينمائية ، الثيمات السينمائية الحديثة، بورتريهات إبداعية لفضاء متخيل.
وصار بوسع الانترنت أن يؤدي وظائف السينما والمكتبة السينمائية والصحافة النقدية، فهو أمن شبكة عملاقة وأضاف إليها أفلاماً أنتجت خصيصاً للعرض على شاشته.
وفي أماكن كثيرة حول العالم تحول- للمفارقة- إلى منتج مجهول للأفلام في بلدان كثيرة تعاني من قلة الإنتاج السينمائي أو قدرته، أو حتى من فرط في الانتاج يعاني من قيود ثقيلة.
وهو استطاع في شروط رأسمالية معينة أن يستعد للمنافسة وأن يقوى استعداداً لمواجهة شركات إنتاج معروفة.
ونجح في اجتذاب ملايين المشاهدين الجدد نحو شاشة صغيرة في وضع منزلي مكيف وهو لاشك ساهم في توليد حس اتصالي جديد لا يشبه طقس المشاهدة السينمائية في شيء... ولم يعد مجدياً بعد التوجه نحو صناعة أفلام للانترنت الفصل بين تأثيرات هذه التقنية الجديدة على الانتاج السينمائي وعلى هذه النتائج التي نشأت عن هذه التأثيرات.
اختطاف الأفلام
عمليات البيع الجديدة للأفلام في هوليوود أصبحت تأخذ منحى جديداً إثر عمليات دمج الشركات الكبرى فأي شركة ضخمة هناك من الضروري أن تمتلك شبكة تلفزيون وأسهماً من الكابلات وأصولاً لمنافسة شركات الإعلان الضخمة، وقد اكتشفت الشركات أنه يمكنها أن تربح أكثر إذا ما تكتلت، وشركة ديزني أفضل مثال للحديث عن التآزر... مايكل أيزنهر أحد مسؤولي ديزني يلخص كل ما سبق في قوله:( لسنا مجبرين على دخول التاريخ... هدفنا جني المال فقط..؟)
الكتاب: جماليات الإنسان الأرضي - تأليف فجر يعقوب- سلسلة الفن السابع العدد 205 قطع متوسط في 135 صفحة.