ولمن لم يقرأ الرواية, نبين أنها نص حقق شروطه الفنية لانتمائه لهذا الجنس الأدبي, جاء سردها في حدود مئتين وثمانين صفحة من القطع المتوسط, تصور حياة مجموعة من المدرسين العرب في اليمن, ومن ضمنهم سوريون من أبناء الرقة, منهم بطل الرواية حمزة الفنان التشكيلي مدرس الفنون الذي يتولى السرد على كامل الرواية, وبرغم كل ما تزخر به من وصف آسر للبيئة, ولاسيما الرقة, ووتيرة مؤثرة لتطور الحدثين النفسي والموضوعي, ضمن تشابك الأزمنة وتزاحم الشخصيات... برغم ما تكتنز به الرواية من جماليات وفنيات عالية المستوى, إلى جوار ما يشوبها من هنات وسقطات, لاتنال من المستوى الرفيع عموماً لها, ولا يغفلها النقد الموضوعي, قامت الدنيا في الرقة ولم تقعد لمجرد ماورد في صفحة منها, وظهر في العدد 1177 من جريدة الفرات مقالان متجاوران, يشكلان نموذجاً لغضبة مريرة, يدعي النقد, وهو غارق في الصفحة 89, لا يبارحها إلا للغرق مجدداً في سطرين أو ثلاثة من الصفحة 92, علماً بأن ما ورد فيهما لا يعدو كونه أنيناً وبوحاً جريحاً لشخصية حمزة, عرض فيهما بشكل تقريري لعالم الليل في المدينة والظواهر التي لا تخلو منها مدينة على ظهر الأرض, بل لا يخلو منها كل تجمع إنساني مهما صغر... لم يفصل أحد في هذه الزوبعة بين المؤلف من جهة وروايته وشخصياتها من جهة أخرى.
فكان التعامل كما لو أنها ضبط أو محضر فيه صفحة تشكل دليل تجريم, يذهب أحدهما إلى اعتبار ذلك تعميماً لو اقترفه كل شخص لتقوضت مجتمعات وزالت مدناً, فهل يعقل أن يتكلم شخص واع عن رواية أدبية بهذا المنطق?.. وبينما كان الآخر يكيل التهم نفسها مع التوسع, لاسيما تهمة تشويه المؤلف أيمن ناصر للمكون الاجتماعي في الرقة حين نعته بالعصبية القبلية - على لسان شخصية حمزة وهذا ما لا يريد أي منها أن يفهمه - كان الأول يختم مقالة بتوصيف المؤلف ناصر بالغريب عن الرقة! المؤلف الذي ولد في الرقة, وأمضى سنوات عمره الخمسين فيها وهي موطنه الوحيد!!.. ويستغربان أن يوصف المجتمع الرقاوي بالعصبية القبلية!!.. ورغم خلو الرواية من أي أسماء حقيقية, فإن أحدهما لم يتورع عن الافتراء باتهام المؤلف بالنيل المباشر من الرموز الأدبية في الرقة!.
إن أخطر ما تكشف عنه هذه المقالات وأمثالها هو اقتصار النقد مؤخراً على اختزال الأعمال الأدبية في سطور معدودة فيها, يمكن اعتمادها أدلة اتهامية? فإن كان للنقد مثل هذه الممارسات, فما الذي يمنع من اعتباره مرادفاً للعصبية القبلية التي قدمها المقالان المشار إليهما بأوضح صورها?!.
من وجهة نظر نقدية لا تدعي الكمال, لكنها تلتزم الموضوعية والحياد التام, ومن زاوية الشخصيات (.. بدت الرواية المتميزة بشكل عام بأنها لم تكن مومفقة دائماً في بنائها لشخصياتها فشخصية حمزة التي قدمت عميقة على قدر كبير من الثقافة والخبرة, بدت غير مقنعة في الصفحة 89, فالشكل التقريري الناجز الذي افتقر فيما سبقه وما تلاه إلى المكافىء الموضوعي الذي كان كفيلاً بتوفير الرابط المنطقي, أظهر حمزة في صورة البسيط المردد لما يسمع, وهو ما يتناقض مع صورته العامة, ومع السرد الطويل الحافل بأقاصيص الحب الجميلة في الرقة, والتوصيف الرائع المؤثر للمجتمع الرقاوي المدعم بوقائع. وأحداث مشوقة تظهر الطيبة والكرم وحتى النبل الذي يتحلى به أبناء هذا المجتمع, تبرز خريطة شخصيات الرواية توزعها على أساس الأبيض والأسود,الخير والشر... بشكل يقترب كثيراً من النمطية وقد كان واضحاً في الرواية أن كل الشخصيات الرقية والقريبة منها جاءت خيرة مشرقة, كانت سطوة المؤلف على شخصياته شديدة, لقد سقطت ظلال شخصيته على بعض فقرات السرد, وكانت ثقيلة على شخصية الراوي حمزة الشيباني بطل الرواية, لقد جعلنا الروائي أيمن ناصر نشعر برقاويته لا برقاوية حمزة, جعلنا نشعر بشدة حبه للرقة لابشدة حب حمزة..).
تصوروا! هكذا جاءت قراءة ما لرواية (اللحاف), اجتزأت منها ملخصاً لفقرة بناء الشخصيات وجماليات المكان, تصوروا النتيجة التي وصل صاحبها إليها, وهو من لا يعرف شخص أيمن ناصر, وتربطه بالرقة أوثق الوشائج من خلال مهرجاناتها وفعالياتها, وصداقاته مع الأدباء من أبنائها فهل ينتشل المبطلون أنفسهم من الساقية الجافة رقم 89, ويمارسون العوم في بحر الرواية الزاخر, أم إن خنجر القبيلة أصدق أنباء من النقد?!
إننا نتوجه, بكل ما نحمل من تقدير ومحبة, إلى الزملاء الأدباء في الرقة الغراء, الذين يؤلمنا صمتهم, وإلى المثقفين وما أكثرهم فيها, نطالبهم بالتدخل لإنهاء هذه المهزلة, نطلب أن نقرأ الرواية بعين النقد لا بمخالب الحقد, ثم فرض حرمة حرية التعبير وقمع شهوة التشهير.
فلا يوجد أديب سوري في الرقة أو خارجها يقبل أن نعامل الثقافة والنقد والأدب كأنها مهرة يمكن له لأي شخص, كائن من كان أن يعتلي ظهرها كما يمكن أن يدميها بالعصا.
هذا حق الأدب وحق حرية التعبير أما حق الرقة الكبيرة فأكبر بكثير, حقها علينا ألا يسجل عليها ما تأباه روحها الحرة المحبة للابداع, ألا توصم بممارسات تتنافى مع طبعها النبيل الذي يحتفي بكل ابداع محلي, عربي, وحتى أجنبي, فليت شعري كيف باسمها يتصدى بعضهم بالأذى لأبنائها ولإبداعهم?.