تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ذكرياتي مع الشعراء..مع خليل حاوي

ثقافة
الأثنين 1/12/ 2008 م
بقلم : ممدوح السكاف

الحوار

استمرت هذه الجلسة الحوارية المفيدة والممتعة معاً في مكتبه بالجامعة الأمريكية من الرابعة بعد الظهر حتي الثامنة مساء,‏

واتفقنا بعد أن انتهى هذا اللقاء الأدبي الحافل أن أرسل له صورة عنه بعد تبييضي له وتحضيره قبل نشره ليرى رأيه فيه ويعدل مايشاء وينقح ماهو بحاجة إلى تنقيح , فليس من يرتجل من الفم بعفوية كمن يخط على القرطاس بوعيه .‏

حين فرغت من إجراء المقابلة قمت لأغادر فأصر باهتمام وحرص ولطف إنساني يفصح عن جبلته النقية الدافئة المتواضعة تواضع الكبار على اصطحابي في خروجي من المبنى ....وصلنا إلى الباب الرئيسي للعمارة .... كان المطر لايزال مدراراً في تهطاله والشوارع شبه غرقى بمسيله .والأضواء البرتقالية اللون تتلألأ في المصابيح الكهربائية وتتماهى أنوارها الساطعة مع الدفق السماوي الهائج , وليس في الطرقات الخالية إلا القليل من السابلة .... منظر لاأجمل ولاأحن ولا أروع ولاأدعى للنشوة الروحية العميقة بالنسبة إلي بعد أمسية أدبية مكتنزة مع شاعر معطاء بنبله وشعره وبإحساسه القومي وانتمائه العربي ....سألني حتى يطمئن علي: إلى أين ستتجه ....هل تنزل في فندق ?... فأخبرته أنني ضيف أقرباء لي في بيروت ....قال ليزداد اطمئناناً : أين مسكنهم ? ....أجبت : قرب الجامعة العربية ... فأوما برأسه حسناً - ثم صافحني بحرارة وشد على يدي وقبلني مودعاً وأركبني سيارة للإيجار وأحرجني بدماثة أخلاقه وفرط كياسته فنقد سائقها مقدماً حقه من المال واستوصاه بي خيراً وهمس بعدئذ في أذني من النافذة - الله معك .... الآن أنا مطمئن عليك ولوح لي وغاب يتدارى تحت هطل الشتاء ....‏

وكانت هذه أول مرة وآخرها ألتقيه في حياتي....‏

ونفذت الاتفاق فعلاً إثر عودتي إلى حمص .... أرسلت إليه المقابلة الأدبية منسقة منظمة (أسئلة وأجوبة) وبعد بضعة أيام حمل إلي البريد الرسالة التالية من شاعر التجربة الملهم خليل حاوي مرفقة بنص الحوار معدلاً تعديلاً طفيفاً جداً يكاد لايذكر في بعض تعابيره وصياغاته :‏

(حضرة الأخ الأستاذ ....‏

تحية عربية وبعد: أخشى لو حاولت أن أجيب عن رسالتك الطيبة الغنية الجواب الجدير بها أن يطول الوقت ويزعجك الانتظار , وسبب ذلك أني , هذه الأيام , في حالة نقاهة من مرض ألم بأجهزة تنفسي وأعصابي , وخلفني موهناً لاأملك من العافية القدر اللازم لمعالجة قضايا الشعر والفكر التي أثارتها في نفسي رسالتك والأخذ بالملاحظات السديدة التي اقترحتها بشأن الحوار الذي دار بيننا , هذا مع الاعتراف بأن الأخذ بها يجعل الحوار ولاشك أكثر إحاطة ووضوحاً فيكون من ثم أكثر فائدة للقراء. وغني عن القول إن لك على الحوار فضل السائل الخبير الذي يصدر عن تجربة ذاتية أصيلة وثقافة مكتنزة وفضل الأديب الخبير الذي أعاد النظر في الكلام المرتجل فأسقط منه النوافل واحتفظ له بنكهة التعبير الحي في اللغة المحكية دون أن يغض ذلك من شروط الصحة في التعبير كما تقتضيها اللغة الفصحى , وهذا في رأيي مايجب أن تكون عليه لغة الحوار :‏

وسوف ترى من مطالعتك للحوار أن ما عدلت فيه وما أضفته إليه لايعدو أن يكون من الأمور البسيطة الجانبية التي لاتؤثر على سياقه العام ولاتمس جوهره ,بانتظار لقاء قريب ,لك مني أطيب التحيات....)‏

عدت إلى هذاالحوار الذي أجريته مع الشاعر الدكتور خليل حاوي ونشر منذ ثمانية وثلاثين عاماً على صفحة كاملة من جريدة الثورة في دمشق وشرعت أقرأ فيه وعيناي تغرورقان بالدموع ....آه ....ياللذكريات تدميني,وياللشباب يغادرني ....واستوقفني منه سؤالان وجوابان ....أقول له في السؤال الحادي عشر : أمتنا العربية تعيش حالياً قضية مصيرية فاصلة , تدرج ببطء في مسرب الحضارة من جهة وتناضل ببساطة ضد قوى الاستعمار والصهيونية من جهة أخرى ....وماهو دور الشاعر العربي الطليعي في مرحلة كهذه .... مامدى قيامه بهذا الدور ?.... وكان رد الحاوي هو التالي بالحرف :‏

أن يتحول إلى فدائي ويحمل السلاح .‏

وأقول له في السؤال الثالث عشر :‏

لي صديق من الشعراء الشباب يقول لي دائماً : ماوضعت رأسي على وسادتي لأنام إلا فكرت حزيناً بالموت .... وأرقت وبكيت .... ماموقفك الفلسفي من الموت كشاعر وإنسان ,وهل تعتبره قضية وكان جواب الحاوي مايلي: الشعر ....وكل الأغراض والنشاطات الإنسانية , يبدو كأنها ماوجدت إلا ليشغل الإنسان نفسه بها عن مجابهة الموت والتفكير المستديم فيه , ولكن لابد للإنسان من أن يجابه الموت في طور من أطوار حياته , وبعد أن يعاني الموت , وهو حي , رعشة في أعصابه وكيانه كله : يعود بنفس راضية يائسة إلى حد ما , ويدخل في صلح مع الحياة مشدوداً إلى نزعة رواقية.‏

في 16 أيلول عام 1982م حدث الاجتياح الإسرائيلي الدموي لبيروت بقيادة السفاح المجرم شارون وخلف حوالي 2000 ضحية من المدنيين الأبرياء في مجازر صبرا وشاتيلا ضمن صمت مطبق مريب من معظم الساسة والقادة العرب ماعدا تلك البطولات النوعية الخارقة ذات الطابع الاستشهادي المقاوم التي كان يخط سطورها بالدم الجنود السوريون والفدائيون الفلسطينيون وعناصر الحركة الوطنية اللبنانية على أرض المعركة الملتهبة بالنيران ضد القوات الصهيونية الغازية المدججة بأحدث آلات الفتك والدمار الأمريكية الصنع .... وخليل حاوي يرى هذا المشهد المأساوي المحطم دون أن يستطيع فعل أي شيء سوى التمزق والإحباط والجنون هو الذي آمن بالأمة العربية تاريخاً وحضارة وإرثاً إنسانياً خالداً وفارق رفاقه في الحزب السوري القومي آنذاك مختلفاً مع آرائهم الضيقة في الاهتمام بالإنسان السوري فقط وبالبقعة السورية لاغير ....‏

وبخلافات أخرى لامجال لذكرها هنا , وانضم إلى فكر العرب والعروبة بعقيدة وأمل وكتب معظم قصائد ديوانه الأول (نهر الرماد) في لندن منطلقاً من إيمانه ببعث جديد لأمة عريقة , وها هو يتجول الآن في شوارع بيروت بين صحبه يصدق مايحصل من هوان وذل وصغار وخوف وقشعريرة ورعب لغالبية أولي الأمر من الحكام العرب المتفرجين على منظر الكارثة في القتل والدمار والإبادة يرتكبها العدو التاريخي الصهيوني لشعبهم العربي دون أن يملكوا ضده سوى لغة لفظية فارغة مثل التنديد والإدانة والاحتجاج ويتابع تجواله وهو لايستوعب مايجري من مشاهد الموت والقتل الجماعي لأناس مبتلين أصلاً بالفقر والمرض والشتات والحلم ....واليأس .... والخلاص بالقبر .... ولامنقذ لهم من هذا الحريق البشري المروع الذي يشويهم إلا الله .... ويمشي ....ويمشي مترنحاً من خيباته الذاتية والوطنية والقومية ويصيح - كما يكتب عنه أخوة إيليا في كتاب خصه به- بين أصدقائه ( كيف يمكن أن أدرس طلبتي غداً) وبأي وجه ألقاهم أنا الصوت العربي المجلجل بآمال المستقبل المشرق لهذه الأمة العظيمة وشاعر رؤية انبعاثها والمؤمن بجسر عبورها ?‏

انتحر خليل حاوي الباقي بأجيال وأجيال في ضمير الأمة ولم يقتل ....غادرنا بقراره الاختياري الجازم في إنهاء وجوده المادي بذاته وترك لنا صمته الناطق وشعره المستقبلي واحتجاجه التراجيدي على المذبحة المعفاة من ضريبة المواجهة والمقاومة والمقاتلة وحماية الأرواح البريئة من أن تزهق على يد الهمجية العبرية برخص ومجانية ووحشية خيالية متعطشة لرؤية أنهار الدم الإنساني العربي الحر تتدافع أمواجها لتنتشي فرحاً الغطرسة الصهيونية وتعربد سعادة ....‏

ولنا في المصير الدرامي الفاجع الذي شاءه هذا الشاعر المبدع بنفسه ولنفسه ألا يكون مصيراً لأمة بأكملها ....ذلك على الأبسط والأقل والأوضح هو المعنى العميق الحار والدرس البليغ الموجع الذي أراد الحاوي أن يهمس به همساً مدوياً في آذاننا من وراء تلك الطلقة النارية الوحيدة الخارجة من بندقية صيد له منسية مهملة صوبها إلى رأسه لتلهب دماغه في لحظة غضبه الأخير....‏

إلا أن رحيل شاعر الموت والحياة والانبعاث القومي العربي المأمول من زاوية ثانية , يعد خسارة جسيمة لحركة الحداثة الأدبية الحضارية في دنيا العروبة خاصة بعد أن تهاوى قبله شاعران مؤسسان من روادها هما بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وذلك نفقد من هذه الصبوة الشعرية المحتدمة في تاريخ تطور الشعر العربي الحديث ثلاثة من أعلامها المبدعين على مدار عقدين من السنوات تقريباً من القرن الماضي في كل من العراق ومصر ولبنان , لكن ركبها لايزال مستمراً يحث الخطا أو يتعثر بها وطريقها ما برح سالكاً أو وعر المتابعة هذا على الرغم من موت آخرين من مشاهيرها وسدنتها كدنقل والقباني والبياتي وبقية الغائبين عن أشعتها خلف الشمس الغارقة في بحار من الحزن عليهم ....‏

وكانوا عماداً لها وقوة تستقوي بها في تحديها لأعاصير رفضها والوقوف في وجهها من قبل مناوئيها وخصومها .‏

زمن خليل حاوي هو زمن التنزيل الشعري ....‏

كانت كلمة الشعر لديه مقدسة مثل كلمة الصلاة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية