تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الاستشراق الموسيقي

ملحق ثقافي
24/2/2009م
د. علي محمد سليمان

كانت الأشكال التعبيرية عبر العصور فضاء لاستكشاف آليات وأنماط المثاقفة. ويمكن دراسة تاريخ تطور هذه الأشكال في سياق التفاعل بين الثقافات وفق منهجيات وأدوات متنوعة تتطور وتتغير بتطور أنماط المثاقفة وشروط التفاعل الحضاري بين الأمم.

ولكن يمكن القول من وجهة نظر تاريخية عامة أن الشكل في أي نوع فني أو أدبي ليس مجرد خيار إبداعي بحت، بل هو أيضاً نتيجة لواقع التفاعل والتبادل الثقافي في واقع أي أمة مع إبداعات الأمم الأخرى.‏

والموسيقى شكل تعبيري يعبر من خلال تاريخه العريق عن الآليات التي حكمت عملية التفاعل الحضاري بين الأمم والثقافات. وككل الفنون، مرت الموسيقى بتجربة حاسمة وهامة فيما يتعلق بقدرتها على التعبير عن طبيعة العلاقة مع الآخر الثقافي. تتجلى هذه التجربة في ظاهرة الاستشراق الموسيقي التي طبعت التجربة الموسيقية الغربية بملامح وتقنيات لا تزال حاضرة في الإبداع الموسيقي المعاصر. وفي هذه التجربة تحولت الموسيقى الشرقية بكل تنوعاتها إلى مادة استثمرها الموسيقيون الأوربيون لإنتاج صيغ وأعمال فنية عبرت عن صورة الآخر الثقافي كما رسمتها المخيلة الاستشراقية. ولعل دراسة تطور الموسيقى الغربية منذ القرن الثامن عشر يكشف عن مسألتين هامتين، الأولى هي خصوصية التجربة الموسيقية في إضاءة الفكر الاستشراقي، والثانية مدى التأثير الذي لعبته الموسيقى الشرقية في تطوير الموسيقى الغربية.‏

فيما يتعلق بخصوصية الموسيقى ضمن التجربة الاستشراقية، يقول الباحث الموسيقي ديريك سكوت أن الأسلوبيات الاستشراقية في الموسيقى الغربية تعود في أساسها إلى نماذج إستشراقية سابقة، وليس إلى ممارسات موسيقية شرقية ذات خصوصية قومية محلية. وينطلق سكوت في هذا الرأي مما اكتشفه ليفي شتراوس في أن الأسطورة تعود دائماً في جذورها إلى أسطورة أخرى سابقة لها. وهنا يلتقي هذا الرأي مع ما ذهب إليه المفكر إدوارد سعيد الذي حلل العقلية الاستشراقية وكشف أننا لسنا بحاجة إلى تحليل العلاقة بين اللغة التي استخدمت لتصوير الشرق وبين هذا الشرق نفسه، ليس فقط لأن هذه اللغة ليست دقيقة، بل لأنها لا تحاول حتى أن تكون دقيقة..”‏

تتجلى هذه الذهنية الاستشراقية موسيقياً في تصوير الآخر من خلال نماذج وتجارب موسيقية عديدة. ويشير معظم الباحثين إلى أن أول نموذج للاستشراق الموسيقي يعود إلى الموسيقى التركية في القرن السابع عشر. فالمؤرخ الموسيقي جوناثان بلمان يشير إلى أن جذور هذا النموذج تعود إلى نوع من الموسيقى العسكرية التي عزفها الجنود الأتراك خلال حصارهم لمدينة فيينا عام 1683. ويشير بلمان إلى أن هذه الموسيقى لم يسمعها أحد من الأوربيون بشكل فعلي ولم يعزفها أحد، وهذا ما يؤكد أن ما عرف لاحقاً في الموسيقى الغربية بالأسلوب التركي لم يكن إلا مجرد إبداع للمخيلة الأوربية، ولم يكن يتعلق بحقيقة الموسيقى التركية.‏

لم يكن الاستشراق الموسيقي عبر مراحله التي تطورت لاحقاً معنياً بالتمييز بين الثقافات الموسيقية الشرقية، بل كان معنياً بالدرجة الأولى بالخلط بين العناصر التي كان يعتبرها غريبة ومدهشة. ويتضح ذلك من خلال الأسلوب الثاني الذي تفاعلت معه الموسيقى الغربية وهو ما عرف بأسلوب هونغرويس Hongrois الذي يعود في أصله إلى الموسيقى التي كانت تعزفها الفرق الغجرية في هنغاريا. لقد نشأ هذا الأسلوب في أواسط القرن الثامن عشر وتزامن في حضوره مع تأثيرات الأسلوب التركي، بل أن النموذجين اختلطا ولم يعد من الممكن التمييز بينهما. ويمكن رؤية هذه العملية في أعمال عديدة من هذه المرحلة مثل فينالي البيانو تريو لهايدن وفينالي كونشيرتو الكمان لموزارت المعروفة بالتركية. أما فيما يتعلق بالموسيقى العربية، فيظهر الاستشراق الموسيقي بوضوح واحدة من خصائص العقلية الاستشراقية. إن الاستشراق الموسيقي لا يستخدم موسيقى الآخر ليقدم صورة ما عنه، بل إنه يستخدم تلك الموسيقى ليقدم الطريقة التي يتم وفقها تصور الآخر. وفي هذا السياق تناولت العديد من الأعمال الموسيقية موضوعات وتقنيات من الثقافة العربية. ولعل شخصية شهرزاد التي كانت عنواناً لعملين لكل من رافائيل و ريمسكي كورساكوف تمثل حالة نموذجية لهذا التراث الموسيقي. ويتضح في كل من العملين على سبيل المثال تلك العملية المعقدة التي تحولت فيها موضوعات وعناصر جمالية وسردية من كتاب ألف ليلة وليلة إلى مكونات للمخيلة الموسيقية الغربية. ولم تكن هذه العملية المعقدة معزولة بالطبع عن الواقع السياسي والثقافي. فبالنسبة لرافائيل، كان عمله نتيجة لعمل استشراقي آخر هو الترجمة الفرنسية التي قام بها ج س ماردروس لكتاب ألف ليلة وليلة. أما عمل كورساكوف فلا يمكن عزله بالطبع عن عملية التوسع الروسي في القرن التاسع عشر باتجاه المشرق وصولاً إلى مدن وأقاليم مثل سمرقند وبخارى.‏

يشكل الاستشراق الموسيقي مساحة واسعة من تاريخ الموسيقى الغربية بحيث يتعذر الإحاطة بمراحله وأساليبه وتقنياته. لكن الموسيقى لا تزال مقارنة مع الفنون الأخرى مجالاً واعداً باستكشاف المزيد من آفاق التفاعل الحضاري بين الأمم. وفيما يخص الاستشراق تحديداً، تتميز الموسيقى بأنها مادة تستطيع اجتياز الحواجز اللغوية والثقافية بسهولة تفوق ما نجده في الفنون الأخرى. ولذلك فإن دراسة الاستشراق الموسيقي من وجهة نظر جديدة غير استشراقية تعتبر واحدة من المهمات أمام الموسيقيين والباحثين في بلاد الشرق عموماً.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية