وكانت تلك الخدع استجابة للتخييل الذي أراه ضرورة في فن الكتابة، فخدع التخييل لم تخالف الرؤية الواقعية أو مذهبها، بل هي تدعم فنية الواقعية أو بشكل أدق الواقعية الفنية.
وعلى سبيل المثال فرواية (باب الجمر) قدمت الطفل (محبة) ليتكلم في المهد وهو لم يتجاوز شهوره الأولى. وفي أقل من سنوات تعلم الطفل الحساب والقراءة وحفظ شعراً، وأدركه البلوغ وهو ما زال في العاشرة. كان يفض النزاع بين قبضايات الحي، ويدعو إلى محبة الناس. وإذا كان الطفل جاء في سياق الخدعة الفنية فإنما يرافق بالضرورة بناء الرواية التي بات عمودها الفقري.
وقد لا تقتصر تلك الخدع على البناء الفني للرواية وغيرها، بل إنها قد تنسحب على السلوك الإنساني، فهي (المبالغة) أو ربما (الكذب) أو (الخديعة، وقد تكون نوعاً من الاحتيال)، وإذا أحسنا الظن فإنه نوع من الكذب الذي لا يتسبب بضرر، وإن كان غير مستحب.
ولا بد أن أعترف بقيامي بخدعة أو بنوع من الاحتيال. ففي أيام من الستينيات من القرن الماضي، وكنت أستعد للزواج فلجأت إلى مستودع للأثاث القديم، وكان رجل يدعى (باسيل ماما) اشتهر بامتلاكه قبواً يجمع مخلفات البيوت، وكما يعرف في الشارع الحلبي بدراجته الهوائية متقناً ركوبها كبهلوان لا مثيل له، فإذا مرّ في شارع هتف المارة وهم يحيون الرجل على براعته في المرور بين الترامواي وسيارة عابرة. كان الأكثر شهرة في ألاعبيه التي فتن بها الناس، بات ظاهرة في المدينة.
نزلت إلى القبو المعتم لأتفحص موجوداته، لتقع عيناي منذ الوهلة الأولى على كرسي هزاز من قصب (البامبو)، وكنت أعرف بأنه مستورد من الخارج. تمنيت أنه لو دخل منزل الزوجية ليكون أول الأثاث فيه. وكتمت الرغبة في نفسي. تظاهرت وأنا أتأمل تناثر الكتب والمجلات على أرض القبو لأسال (باسيل ماما) إن كان مهتماً بتجارة تلك الأوراق، وأضفت أن في سقيفة بيتنا مئات من الكتب المطبوعة والمكتوبة بخط اليد، فلمعت عينا باسيل وهو يسأل عن المخطوطات، فقلت له أن واحداً منها يسمى (كليلة ودمنة) ورسوم ملونة لمن يسمى (الواسطي).
كانت الخديعة/ الكتاب لابن المقفع والرسوم لأشهر رسامي العصور الإسلامية، ويحتفظ بتلك النسخة متحف لندن كواحدة من الأعمال النادرة التي لا تقدر بثمن.
وهكذا خيل لي أن باسيل ماما قد سال لعابه فهتف قائلاً بأنه على استعداد لشراء محتويات السقيفة، وطلب مني أن أدله على عنوان البيت فاخترعت حياً من حلب القديمة.
وهكذا حصلت على الكرسي بمبلغ صغير ادعيت أني لا أملك غيره، ممنياً الرجل بكتب السقيفة حالماً بكتاب كليلة ودمنة.
وانتقل (باسيل ماما) إلى بيروت ليكون واحداً من أهم تجار الآثار والمفروشات القديمة، وقد زينت بيتي بالكرسي الذي ما أزال أحتفظ به، وإن كنت على مدار السنين أنظر إليه من حين لآخر أطلب المغفرة من الرجل الذي خدعته.