تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المنشد حسن حفار: من بيده هوية يجب أ لا يضيعها

ملحق ثقافي
24/2/2009م
حلب/ د. محمد فؤاد

ليس من السهل أبداً أن أنقل كل ما دار في الحوار مع المنشد (كما يحب أن يسمي نفسه)، الشيخ حسن حفار.

فالحوار الذي استمر عدة ساعات، بل واستكمل في اليوم الثاني بعد صلاة العصر التي يرفع آذانها الشيخ حسن في المسجد الأموي الكبير في حلب منذ مايزيد عن خمس وعشرين سنة، أقول هذا الحوار المنقول ينقصه الكثير أهمها صوت حسن حفار العذب الذي كان يشدو بالأغنيات التي يتخذها مثالا ً أثناء حديثنا.‏

الحاج حسن حفار، المنشد الذي يحمل على عاتقه تراثاً ضخماً يقول أنه بدأ ينوء بهذا الحمل وحده، ويشتكي أن حلب لم تعد هذا المكان الذي كان الناس يحجون إليه ليأخذوا عن أساطينها الأصول. فلم يعد في حلب الكثير ممن يعرفون هذه الأصول.تراثنا هويتنا – يقول الحاج حسن- لكننا الآن نضيع هذه الهوية ويجدها غيرنا. حسن حفار الذي أنشد على العديد من مسارح العالم واستمع إليه الآلاف لم يظهر على مسرح يليق بما يملكه من معرفة وصوت وأداء، في بلده. تعرف في تونس على الملحن الكبير صالح المهدي الذي استمع إليه في موشح (باسم عن لأل..) وأعطاه موشح (ذاب قلبي).‏

بمناسبة الحفل الذي سيقام له في دار الاوبرا كان هذا الحوار الذي بدأه عن نشأته:‏

كان مولدي في حي يسمى (ساحة بزة) أحد أحياء حلب الشعبية العريقة، في العام 1943 .أنا من عائلة مشايخ، وكان لدينا زاوية تدعى زاوية الحفار، لكنني كنت أتردد على زوايا أخرى كالزاوية الهلالية والبادنجكية وغيرها الكثير. كان عمري 12 سنة حين بدأت أتعرف على المنشدين الكبار في ذلك الوقت في تلك الزوايا، كالمعضمي والحمامي والتفنكجي، وطبعاً المنشد الكبير المرحوم صبحي حريري، معلمهم.‏

كان عمي أول من اهتم بي، وجد صوتي جميلاً حين كنت أؤدي الأذان، فطلب مني حفظ بعض القصائد التي أعجبت هؤلاء المنشدين وقالوا لعمي هذا الولد له مستقبل. وأنا بدوري أقبلت على هذا المنهل الغزير أشرب منه بشغف. كنت أقلد دون أن أعي أنني أتعلم من أصول عظيمة. ثم جاء الأستاذ المرحوم عبد القادر حجار فأعطاني الكثير،أما الأستاذ الكبير بكري كردي فقد عرفته في سنوات حياته الأخيرة..‏

وعمر البطش؟‏

كنت صغيراً عندما توفي (1950) لكنني أخذت من المصادر القريبة منه ونهلت من منهله فقد كان قامة كبيرة وأنا اليوم أحفظ الكثير الكثير لعمر البطش.‏

•من أين أخذت لعمر البطش؟‏

••من المرحوم عبد القادر حجار الذي كان يسمى ورشة عمر البطش، وكنت أحفظ منه الكثير حتى قال لي يوماً (طول بالك ) لقد فرغت تماماً ولم يعد لدي ما أعطيك إياه- كنت أذهب الى البروفة في بيته وأحياناً الى دكانه (كان خياطاً) وكان لا يبخل علي. عبد القادر حجار له فضل كبير عليَ في هذه المصلحة. إضافة لذلك كنت قد أخذت من أشغال الذكر، وأشغال الذكر هي الأساس ومن لا يأخذ من هذا النبع لا يفقه شيئاً.‏

•حدثنا، إذن، عن دور الأذكار والزوايا‏

••كما قلت لك، أشغال الذكر هي الأساس، فالشيخ في الذكر يجب أن يكون عنده المام بالنغمات وهو من يعطي للمنشد الطبقة، فمثلا حين يعطيه البياتي فيجب على المنشد أن يأخذ من جواب البياتي، ثم بعدها يقوم المنشد (بإنزال) أي نغمة يريدها صبا، سيكاه،.. الخ.‏

أنا تعلمت على يد هؤلاء المنشدين، وأسميهم المرشدين، هؤلاء العلماء في انتقاء الكلام، وقديماً قيل لا يسود المنشد إلا إذا توفرت فيه ثلاث خصال: الشوق والذوق والجوق. المنشد يجب أن يكون محباً، فالكلام الذي يخرج من القلب، مستقره القلب. والشوق الى الله والرسول وأهل البيت، صفة يجب أن يتصف بها المنشد. والذوق في انتقاء الكلام ،أما الجوق فهي الجوقة المنتقاة بعناية. وأنا لا آخذ من الموشحات إلا الملحن القديم الثقيل.‏

لقد أعطاني المرحوم محمد رجب الكثير من موشحات عمر البطش، وحفظتها، إضافة الى ما تركه العالم علي الدرويش الذي أخذ عنه سيد درويش نفسه.‏

أما بكري كردي الذي لحن (القلب مال للجمال..) و(ابعتلي جواب..) التي أخذها المصريون وردوها إلينا وهم يلفظون الجيم بالطريقة المصرية فصار الجميع يعتقد أنها مصرية.‏

•ما واقع الإنشاد حالياً؟‏

••يعاني من كثير من المشاكل فقد استسهله الكثيرون وصاروا يضعون كلمات دينية على ألحان خفيفة، خذ مثلاً: على لحن ياعوازل فلفلوا، كتب يا طه ياحلو، والمقصود الرسول الكريم، هذا لا يجوز، هذا إسفاف. أو مثلاً: لحن حبذا بادي المحيا.. سطوا عليه ووضعوا عليه كلمات رديئة دون أن يشيروا الى الأصل.‏

•أية كلمات؟‏

••دزاني واعرف مرامي..!! التراث مليء لكن علينا أن نبحث فيه وندونه، لكنهم اليوم يختارون الطريق السهل.‏

•لكن كيف نحفظ التراث، ومن يقوم بحفظه؟‏

••أول مشكلة يعاني منها الباحث الجاد، والمنشد المتمكن هو مشكلة حقوق الطبع وهي غير متوفرة، منذ خمسين سنة أعمالي توزع ولكن لا يوجد أي عائد لي شخصياً، فكيف يمكن أن أتفرغ لتسجيل هذا التراث ومن هي الفرقة التي سترضى أن تعمل معي ولا أؤديها حقها من الأجور؟‏

•هل تظن أن الدولة هي التي يجب أن تكون مسؤولة عن هكذا مشروع؟‏

••لا أعرف، لكن أنا لي آلاف التسجيلات في الحفلات الخاصة، ويأخذ هذه التسجيلات أصحاب الحفل وينتهي الأمر. افترض أنني مت، من يقوم بنقل كل هذه الألحان والأعمال التي أحفظها؟ أنا أدرب حالياً أولادي على هذا، وأرجو من الله أن يكونوا قادرين على حمل الأمانة. من بيده هوية يجب ألا يضيعها (أما الزبد فيذهب جفاء)، علينا أن نكون قادرين على تمثيل بلدنا وتراثنا.‏

•من هم تلاميذك شيخ حسن؟‏

••أولادي، هم حالياً من أحاول معهم، يجيئني الكثيرون ليصبحوا منشدين لكن بعد درس أو اثنين، يجدون المسألة صعبة وتحتاج الى جهد فيتركون.‏

• هل المسألة في إمكانيات الصوت أم القدرة على التعلم؟‏

••الاثنين. هناك من يحمل صوتاً مقبولا، لكنه يجد أنه قد يحتاج الى شهر لحفظ موشح بطريقة صحيحة والتدرب عليه ليخرج كما يجب أن يكون، بينما الطقطوقة تحفظ بيوم واحد، مجرد أن يحفظ كلماتها يستطيع أن يؤديها. كذلك هناك مشكلة في الاستماع، الناس تحب أن تسمع السهل، في الحفلات تجدهم يطلبون الالحان التي يرقصون عليها، ولذلك أنا أبدأ وصلاتي كما أحب من الموشحات قبل أن يمل الناس، ثم أنتقل الى الأدوار والقدود كي يرتاح الناس ويستمتعوا وتمضي الليلة.‏

•أنت غنيت في كل الألوان الغنائية التراثية؟ أين تجد نفسك وماذا يمتعك أنت من هذه الألوان؟‏

••الموشحات، سواء الدينية أو الغزلية، لكن الموشحات التي تحتاج الى أداء صعب وذات جمل حلوة سواء كانت دينية أم غزلية، هي التي تمتعني، خذ مثلا موشح (ياناعس الأجفان حبك كوى كبدي) لعمر البطش، تعتبر معجزة فنية فقد انتقل بين المقامات بطريقة لا يمكن تصورها.‏

كان محمد عبد الوهاب يتحدي الناس بجملة أو قفلة أن يؤديها أحد، خذ مثلا: (القلب ياما انتظر)، عندما يؤدي الآهات فيها على مقام النكريز أن لا تمتلك حين يقف إلا أن تصرخ معه بالآه، غاية في التعبير والجمال والأداء الصعب.‏

• أين تكمن برأيك الأزمة التي تعاني منها الأغنية الآن، في الصوت أم في الكلمات أم في اللحن؟‏

•• في كل هذه الأشياء مجتمعة، لكن طالما النساء (حبالات ولادات) فالصوت لابد أن يتوفر، ولكن ماذا نقدم من كلمات أو ألحان؟ لاشيء. لا يوجد لحن تسر له، أو كلمات تسمعها. آخر من قدم من الألحان الجميلة في حلب هو المرحوم بكري كردي ومع ذلك بكري كردي لم يأخذ حقه حتى الآن. حتى الطقاطيق التي وضعها يمكن لها أن تسعد الناس و(ترقص الحيطان) خذ مثلا (كتر دلالك، انا والقمر سهران، ابعتلي جواب).‏

• لم نرك على مسرح أو في حفلة عامة؟ لكنك دعيت الى حفلات خارج سورية كثيراً‏

••أنا غنيت في فرنسا، وفي المغرب كان عدد الحضور يزيد عن 35 الف مستمعاً وكان من بين الحضور محمد بنيس وعبد الفتاح بنيس ومجموعة كبيرة من الطبقة المثقفة و(السميعة) ومع كل هذا الحضور كنت ترمي (المحرمة) تسمع صوتها. ذهبت الى قرطاج عدة مرات وفي كل مرة كان الحضور بالآلاف.‏

•لكنك في سوريا لم تقم حفلة على هذا المستوى؟‏

•• لا ، لم أدع الى أي حفلة أو مهرجان، هذه أول مرة أدعى فيها الى دار الأوبرا.‏

• لماذا لم تدع؟‏

••لا أعرف، الظاهر أنه حتى في الفن هناك (تنفيعة). ربما لأن ما أغنيه صعب ولا يستسيغه الناس، من يستمع الآن الى قصيدة مرتجلة أو موال صحيح؟ أنا لا يمكن أن أؤدي القصيدة بنفس الطريقة مرتين، هناك إمكانيات للارتجال لا تنتهي ولا تتوقف، والارتجال مسألة صعبة تحتاج إلى كثير من المران، والمعرفة والذائقة وفوق كل هذا الى روح، لا يمكن أن ترتجل بدون روح. للأسف الناس يطلبون الرقص لا يحبون الاستماع الى القلب والروح (الفن كان بالراس صار بالرجلين). الارتجال لا يمكن تعلمه.‏

• أنت معروف بين الدارسين والمتذوقين بقدرة العالية على تصوير المقامات‏

•• اسمع هذه الحكاية، مرة كان الأستاذ الكبير بكردي كردي يؤدي مقطع (أنا لي اله يعرفني) على مقام الصول كما هو معروف وكان معه الأستاذ شكري الأنطاكلي العازف الكبير، ثم انتقل الكردي الى مقام الزنجران وكان يتابع معه الانطاكلي، لكنه فجأة انتقل الى السيكاه (وهنا الشاهد). التصوير هو أن تخترق المقام من مكان غير متوقع، وهنا ضاع الاستاذ الانطاكلي ولم يستطع أن يعود الى المقام الأصلي دون تدخل الكردي. يحتاج التصوير الى معرفة دقيقة وعالية ليستطيع المؤدي أن ينتقل بين المقامات ويعود دون نشاز أو خطأ.‏

•حدثني عن علاقتك مع المرحوم صبري مدلل، يقال أنكما كنتما في فرقة واحدة فترة طويلة من الزمن ووقع خلاف جعلك تخرج من الفرقة، كان ذلك في العام 1982 ، صحيح؟‏

•• كنت أنا والمرحوم صبري (أبو أحمد) وعبد الرؤوف حلاق في فرقة لفترة 17 سنة تقريباً. وكان كل واحد منا باختصاص، في الحفلة الحاج صبري يؤذن، وعبد الرؤوف يقرأ قرآن وأبو حسن موشح وأختم أنا بقصيدة. أما عن الخلاف فكان لأسباب غير مهمة- رحمه الله كان يحب أن نؤدي في الحفلات من ألحانه الكثير، وكان خلافي معه أن التراث غني ويجب أن ننوع، صحيح ألحانه جميلة وكانت محبوبة، لكن إصراري وبعض الخلافات المادية الصغيرة عجلت في خروجي من الفرقة، وكنت قد أسست فرقة أخرى وهكذا مشيت الأمور.‏

• أستاذ حسن، أنت غير راض عن الشباب حالياً، ماذا يمكن أن تنصح، إن كان لابد من النصيحة؟‏

•• التعلم، يجب أن يتعلم، ويأخذ من أهل العلم، والموسيق مثل أي صنعة يجب أن تنتقل من من معلم الى طالب علم. أنا إلى الآن أتعلم من الكبار.الشيخ زكريا أحمد.‏

• هل من أصوات تحبها؟‏

•• أنا لا أحب أن اسمع إلا الأوائل، لكن للأسف لا يوجد تسجيلات كافية، أو جيدة، أسمع لطه الفشني، الشيخ مصطفى اسماعيل، الشيخ علي محمود. طرحات الصوت للشيخ مصطفى لا يمكن أن توصف.‏

طبعاً يهزني أداء زكريا أحمد وألحانه، صوت محمد عبد الوهاب، وألحان السنباطي.‏

• بصراحة، هل ما زالت حلب تحمل التراث الموسيقي الذي تعرف به؟‏

أقول بصراحة، لم تعد حلب كذلك، كان هذا في السابق، كان عدد السميعة أكبر ونوعيتهم أجود. في الزمن البعيد وكان لي من العمر ثلاث عشرة سنة، كنا نتقاضى على الحفل أنا والفرقة ثلاث ليرات ونصف، جاء مرة أحدهم بادي الهيبة، واستمع إلي، ثم طلب مني موالاً، وموشح ثم موال آخر. قام وعلى وجهه السعادة ثم اقترب مني ودس في يدي ورقة مطوية توقعت أنها خمس ليرات، وقمت وأنا أطير من الفرح، تصور، حين تواريت ونظرت عما في يدي وإذ هي ورقة بمئة ليرة (أم الطبق)، بقيت ثلاث ليالي لا أنام.!!!‏

حلب، لم يعد فيها سميعة لأنه لم يعد هناك من يعطيها بأصول وسخاء وعلم. لم تعد هناك ألحان والشباب يستسهلون الألحان الخفيفة وبالتالي فكيف لا تخرب آذان الناس، وكيف لا تتغير الذائقة. لا يوجد حالياً من يمكن أن يغني قصيدة أو يستطيع ارتجالها، لا يوجد من يمكن أن يؤدي موشحاً صعباً، أو أن يغني بدون مصاحبة آلة ويعتمد على صوته فقط.‏

تعليقات الزوار

ابو راشد |    | 17/11/2009 02:08

لكم جزيل اشكر على اهتمامكم بتراث حلب ومبدعها في القصائد المنشد حسن الحفار

تاتو |  tatotrotoar@yahoo.com | 10/01/2010 17:00

ما لنا دمعي ولا دمعي صبا

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية