وكل كلمة من هذه الأصول تتألف من كلمتين، فاليكاه على سبيل المثال تتألف من كلمة “يك” وتعني واحداً، و “كاه” وتعني مقاما، ومثلها “دوكاه” فالدو تعني اثنين و “كاه” تعني مقاماً، كذلك الأمر بالنسبة لباقي كلمات الأصول، التي باتت تعرف اليوم حسب تداولها موسيقيا يكاه (راست)، دوكاه، سيكاه، جهاركاه بنجكاه (النوا) ششكاه (الحسيني) هفتكاه (الأوج)، وانتقل “اليكاه” الى قرار (النوا).
والمقام موسيقياً في بلاد الشام هو “النغم” وفي مصر “المقام” وفي المغرب العربي يسمى الطبع، وكلمة “مقام” لغة، تعني “منزلة” أو “مكانة” وجمعها مقامات، وفي الأدب، أطلقت على جنس من القص الأدبي.
“المقامة” – مؤنث مقام – كمقامات الهمذاني والحريري وغيرهما، كذلك أطلقت على قبور الأنبياء والصحابة وأولياء الله الصالحين، فيقال مقام النبي يحيى، ومقام السيدة زينب (رضي الله عنهما) ومقام النووي، وما إلى ذلك.
والمقام كمصطلح موسيقي، يعني المكان العالي أو المرتفع أو خشبة المسرح، أو وقوف المغنين والعازفين أمام الخليفة أيام العصر الذهبي للموسيقى والغناء، غير أن ما ذكره الأصفهاني في كتاب الأغاني يناقض هذه التسميات التي ذهب إليها بعض الباحثين والدارسين في الغرب من مثل اندلسون وزاكس. لأن المغنين والعازفين كما هو ثابت تاريخياً، ما كانوا يقفون في مكان عال ولا على خشبة مسرح، ولا أمام الخليفة، وإنما يقفون وراء ستارة تحجب عنهم الخليفة وعلية القوم، ونادراً ما كان يسمح لهم بالظهور أمام الخليفة.
والنغمة في الموسيقى ليست مقاماً، وإنما هي فرع من مقام أساسي، فيقال على سبيل المثال، إن نغمة “الحجاز كار كود” أو نغمة “النكريز” التي هي أيضاً فرع من مقام “النهاوند” “مقام”، وهذا الأمر ينطبق على جميع النغمات التي هي فروع من مقامات. ويتألف المقام أو النغمة من ثماني درجات موسيقية يطلق عليها اسم “ديوان” وتكون الثامنة جواباً للدرجة الأولى. في مقام الراست مثلا، تكون درجة “كردان” جواباً لدرجة “راست” وللمقام طابع خاص، وأسلوب معين، تسير بموجبه النغمة المعينة، فتشكل هيكلا يدعي “المقام” وقد أضاف أهل الصنعة عدداً من المقامات التي دخلت في دمج بعض المقامات بعضها ببعض، وهو كاصطلاح موسيقي – أي المقام – بناء أو قالب في الموسيقى العربية لا يعتمد في درجات أصواته على نظام معين يحدد أبعاده أو مسافاته أو انتقالاته النغمية فحسب، وإنما يشير إلى الجو العام الذي يضعنا فيه، وهو أهم عنصر من العناصر التي قام عليها، ويمكن وصف عناصره البنائية كبناء وهمي – من وراء تعامل الموسيقيين معه، وهو التعامل الذي أدى إلى تطوره عبر عدة قرون – بأنه يقوم على ناحيتين اثنتين هما: الحيز الصوتي والزمن المحدود؛ كما أن بنية المقام تعتمد على المدى الذي يكون فيه تنظيم هاتين الناحيتين محدداً أو حراً، لأن عنصر الحيز الصوتي منظم ومصاغ ومعزز إلى الحد الذي يمكن أن يصبح معه عنصراً أساسياً وحاسماً في المقام، بينما يفلت الجانب الزمني الإيقاعي من التنظيم الشكلي المحدد.
وفي هذا الجانب بالذات تكمن الصفة الأكثر جوهرية للمقام، وهذه الصفة أي التنظيم الحر للناحية الزمنية الإيقاعية تلزم الحيز الصوتي بتنظيم ثابت له، لأن المقام لا يخضع في بنائه إلى نظام ثابت ومحدد، ويميز الإيقاع أسلوب المؤدي الذي يقوم على مدى براعته ومهارته عزفاً أو غناء، وفي وضع المتلقي في الجو العام للمقام. وفي ضوء هذا يمكن تمثيل شكل المقام وهيئته وجوه العام، عبر الحيز الصوتي الثابت والسمة المقررة لهذا الشكل التي تقوم على عدد من اللوازم أو الجمل اللحنية التي تحقق أكثر من مستوى للبعد الصوتي الذي يتحرك بالتدريج صعوداً من الطبقات الصوتية المنخفضة إلى الطبقات الصوتية العليا أو بالعكس، إلى أن يبلغ الذروة التي يكتمل عندها شكل أو هيئة المقام، وتنظم الأبعاد الصوتية في كل مقام بعلاقات مختلف بعضها مع بعض، لينجم عنها على الأقل فاصلتان موسيقيتان مختلفتان، وهذه الفواصل تعتمد على أسلوب أداء المقام، والأسلوب يعتمد بدوره على النظام السلمي للموسيقى العربية، وطبعاً فإن الفواصل التي أشرنا إليها والناجمة عن علاقات الأبعاد للمقام هي التي تقرر الجو العام للمقام.
المقام وعلوم الموسيقى الغربية
من المعروف أن صعوبة استعمال العلوم الغربية الموسيقية من مثل: تعدد الأصوات والترجيع Fugue والتقابلContrepoint والهارمونيHarmony في بعض المقامات الشرقية عامة والعربية خاصة، تتأتى من وجد ثلاثة أرباع الصوت في بعض المقامات وهذا الموضوع طرح للمرة الأولى في مؤتمر الموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة في شهر آذار – مارس – عام 1932، ومنذ ذلك التاريخ جرت محاولات لكسر هذه العقبة، وكانت أولى هذه المحاولات تجربة محمد القصبجي وموزع ألحانه إبراهيم حجاج اللذين تمكنا عام 1936 من هرمنة مقام الراست في مونولوغ “منيت شبابي” واستعمال البوليفونية – تعدد الأصوات – في مونولج “يا مجد” ومن ثم تابع القصبجي لوحده هذه التجربة في مونولوغ “ياطيور” عام 1942. وفي كل هذه التجارب حافظ القصبجي على شخصية المقام الموسيقي العربي وجوه.
وفي سني السبعينيات انبرى الموسيقى الأكاديمي الراحل جمال عبد الرحيم لتطبيق هذه العلوم لاسيما تعدد الأصوات على المقامات العربية التي تحتوي على ثلاثة أرباع الصوت، واستطاع بعد تجارب مضنية التوصل إلى إيجاد صيغة تربط بين نغمات الأرباع وغيرها من النغمات، وابتكار توافقات لحنية تتفق والمقامات التي عالجها، وألف فيها أعمالاً تشهد له بالإعجاز الذي صنعه مثل الترجيع Fugue الذي استعمله في دور “كادني الهوى” لمحمد عثمان والحركة الرابعة من المتتابعة الوترية (دعابة)، وثنائي الكمان والكمان الجهير Violoncell ، الذي استخدم فيه لحناً شعبياً من مقام البياتي.
وفي الوقت الذي كان فيه جمال عبد الرحيم يقوم بتجاربه في مصر، كان في سورية موسيقي آخر يعمل في الاتجاه نفسه وبأسلوب مغاير هو الموسيقار نوري اسكندر.. تجارب نوري اسكندر سلكت طريقاً آخر، اعتمد فيها على فكرة إلغاء سير المقام التقليدي دون التخلي عن شخصيته وجوه، وألحانه التي سمعتها من مقامي الصبا والبياتي تنبئ بذلك، ويعد عملاه الرائعان كونشرتو العود، وكونشرتو الكمان الجهير من أهم أعماله، فيهما نلمس كيف أعطى الحرية للمقام كي يخرج عن تقاليده، إن في سيره اللحني أو محطه المقامي... إن إلغاء سير المقام التقليدي لم يكن سهلاً، ومعالجة نوري اسكندر لأجناسه كانت عقدة العقد، ولا أعني هنا المقامات التي تتطابق أبعادها وأبعاد المقامات الغربية، وإنما المقامات التي تنوء بأعباء ثلاثة أرباع البعد إن تفكيك السير اللحني للمقام ، أغنى المقام، وأتاح الحرية لنوري كي يطبق على هذا النوع من المقامات علوم الموسيقى الغربية، على الأرباع ومن يستمع للحركة الثانية من كونشرتو العود يقف مأخوذاً بالتوليفات الهارمونية التي أبدعها والتي تتوافق وجنس المقام وروحه بنمطه الجديد.
كنت أود الحديث عن الرائعين زيد جبري وحسان طه وشفيع بدر الدين، ولكني لا أملك أي أثر موسيقي لهم، ومع ذلك فإن مشاركتهم في مهرجان مساحات شرقية، يعني أنهم بدأووا مسيرتهم التجريبية مع المقامات التي لا تستقيم أبعادها مع الموسيقى الغربية، وإنهم جادون في إعادة وضع مسار جديد للمقام يفي بأغراضه وشخصيته وجوه من وراء علم لا حدود له هو علم الموسيقى.