تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الموسيقا الشرقية: مساحات في الروح الإنسانية

ملحق ثقافي
24/2/2009م
د. رياض عصمت

لعله من نافل القول “إن الموسيقا غذاء الروح” أو أنها “لغة الإنسان غير المنطوقة” إنما يبدو أنه لا مفر من تذكير العالم بهذه المقولات التي أضحت كالأمثال كلما تطرق الحديث إلى الموسيقا الشرقية، إلى أصالتها، هويتها، سماتها، مميزاتها ومشروعيتها.

السبب الأساس أن كل هذه التساؤلات محسومة سلفاً بالنسبة للموسيقا الكلاسيكية الغربية، لكنها تحتاج إلى أجوبة كلما تطرق النقاش إلى موسيقانا، وكأنما “العولمة” ليست تعددية وانفتاحاً وتبادلاً، بل فرض هيمنة نموذج بعينه على باقي الحضارات، على حساب الثقافات المحلية الأصيلة. الحقيقة، إن العولمة المقبولة هي عبارة عن “مقايضة”، أي طريق ذي اتجاهين. بالتالي، هي تتضمن العطاء والأخذ، الإلهام والاستلهام. من المهم أن يعقد مؤتمر حول الموسيقا الشرقية في دمشق، لكن الأهم أنه يتم توسيع طيف موسيقانا العربية لتشمل ما هو قريب منها، سواء في الفن التركي أم الإيراني. هذا تأكيد لروح التعددية والانفتاح في ثقافتنا العربية المعاصرة، بحيث تستوحي التراث، وتطوره بما يجاري العصر، ويناسب جيل الشباب، ويلتزم بقيم الأصالة، دون انغلاق على الذات، بل بالانفتاح على ثقافات مغايرة متعددة. بالتالي، سوف تثبت الموسيقا مرة أخرى عبر ملتقى دمشق أنها لا تحتاج إلى جوازات سفر، ولا تعترف بالحدود الجغرافية، وتقفز فوق حواجز اللغة وعقباتها، لتخاطب الوجدان أينما كان صاحبه.‏

لكن مشاركة الموسيقي نادر مشايخي والمغني سالار أجيلي من إيران، ومشاركة الموسيقي فيصل سامي وعازف البيانو شفكي كارييل من تركيا، بالإضافة إلى زملائهم السوريين: نوري اسكندر وزيد جبري وحسان طه وشفيع بدر الدين وقائد الأوركسترا السيمفوني السورية ميساك باجبورديان، سيرفع بلا شك من سقف التوقعات حول نجاح هذه التظاهرة الهامة.‏

أتمنى أن نستعين في هذا الملتقى بجميع خبرات محاضرينا في مجال الموسيقا، مثل الباحثين صميم الشريف، سعد الله آغا القلعة، نبيل اللو.. وسواهم. كما أتمنى أن نستفيد من الخبرة العريقة لملحننا الكبير سهيل عرفة، ولفناننا القدير إبراهيم جودت، ولملحنينا المبدعين نوري اسكندر ونوري الرحيباني وحسين نازك، ومن الجيل التالي رعد خلف وسمير كويفاتي والطاهر مامللي وسواهم، كذلك لعازفينا الموهوبين نجمي السكري وكنان أبو عفش وشادن اليافي وغزوان زركلي وكنان العظمة الغربيين، وجوان قرجولي وعصام رافع الشرقيين، وغيرهم من المواهب التي يزخر بها وسطنا الموسيقي، وبعضها رحل عن عالمنا قبل فترة قصيرة، مثل الباحث حسني الحريري والملحن عبد الفتاح سكر، اللذين يمكن أن يذكرهما الملتقى بالتكريم. وأخيراً، ننتظر أن تنصب الجسور فوق الهوة الوهمية السحيقة بين موسيقانا الشرقية والموسيقا الغربية.‏

هنا، أود أن أذكر قصتين لا تخلوان من الطرافة عن الموسيقار الراحل صلحي الوادي، الذي عرف عنه شغفه بتعليم الموسيقا الكلاسيكية الغربية، وعزوفه عن تعليم الموسيقا الشرقية. حاول الوادي تلحين قطع موسيقية عدة تجاري التراث الغربي المعروف، لكنها لم تلق قبولاً كافياً من الناس، فانصرف إلى تأليف الموسيقا التصويرية لبعض الأفلام والمسرحيات أحياناً. أما عندما استلهم في فترة متأخرة لحن أغنية محمد عبد الوهاب “حياتي أنت”، ظلت هذه القطعة تعزف من قبل “الفرقة السيمفونية الوطنية السورية” باستقبال جماهيري جيد، حتى بعد رحيله عن دنيانا. أما القصة الثانية، فهي أن صلحي الوادي – غفر الله له – التقى في أوج غرامه بالكلاسيكات الغربية بمخرج عراقي زائر متخرج من أوربا. ولدهشة الحاضرين، لم يغنِّ الاثنان “نشيد الفرح” لبيتهوفن، ولا “السيمفونية 40” لموزارت، بل اندفع صلحي يدندن ويغني مع زميله بشجى وحنين اغرورقت معه عيونهما بالدموع أغنية “فوق النخل فوق” على مسمع من الجميع.‏

بعيداً عن نقاش يجيده الخبراء الموسيقيون أكثر مني بكثير، أستطيع أن أقول بضمير مرتاح أنه من بين الأمسيات الموسيقية التي لا أنساها في حياتي أمسيتان حضرتهما في تونس. كانت الأولى في “قصر البارون” في بلدة “سيدي بو سعيد”، حيث استمتعت أيما استمتاع بصحبة الصديق الإعلامي والدبلوماسي والوزير عبد الحفيظ الهرقام بأداء “فرقة العازفات” النسائية، وهي إحدى فرقتين تونسيتين اقتدت بهما فرقتان سوريتان فيما بعد، هما “فرقة عزة الميلاء” و”فرقة ماري”. أما الأمسية الموسيقية التونسية الأخرى، فهي لفن “المالوف” من أداء فرقة زياد غرسة، إذ أن الغناء والعزف فيها تصاعد ليصل بالجمهور إلى حالة نادرة من النشوة والوجد والطرب، جعلته حرفياً يثمل بالألحان.‏

ليس ثمة شك أن الموسيقا والأغاني التركية تشكل إلهاماً متكاملاً مع التراث العربي، بحيث تفاعلت مع الموسيقا في سورية ومصر بشكل خاص. وقد نشأنا على أثرها في طفولتنا وشبابنا، لأن والدي كان يتقن عزف العود، بينما كان أحد عميَّ يتقن عزف الكمان، وكانا متأثرين بأسلوب العزف التركي، بحيث لا تغيب عن بالي أمسيات الطفولة في بستان جدي في “قدسيا”، حين كان يجتمع باقة من أساتذة الجامعة في ذلك الزمان (مثل عبد الكريم اليافي، عزمي الموره لي، عادل العوا، بديع الكسم وسواهم،) ليستمعوا إليهما يعزفان تحت ضوء القمر تلك الألحان الشاعرية، وبالأخص سماعي “فرح فزه”. وقد كتب الباحث صميم الشريف في كتبه كثيراً عن دورهما الرائد عبر “نادي أصدقاء الفنون” و”إذاعة دمشق”.‏

أما الموسيقا الإيرانية، فسحرتني في وقت متأخر، عندما زرت طهران وأصفهان عام 2001 لحضور “مهرجان فجر المسرحي”، فاقتنيت عديداً من نماذجها الموسيقية، التي ما زلت أستمع إليها مطرباً، وأعجب باتساع طيفها بين قطبي الموسيقا التراثية، والأخرى الحديثة. وقد تركت استلهاماتها الصوفية أعمق الأثر في نفسي، خاصة تلك المستوحاة من أشعار عمر الخيام. بل إنني لم أتردد عن استخدام بعض المقطوعات منها في مشاهد عالم الجان حين أخرجت “حلم ليلة صيف” لوليم شكسبير كعرض تخرج لطلبة قسم التمثيل من “المعهد العالي للفنون المسرحية” عام 2002، وتركت وقعاً قوياً لدى المتفرجين في دمشق واللاذقية والقاهرة والإمارات العربية المتحدة.‏

من ناحية أخرى، ما زلت أستعيد حتى الآن، وبعد مرور نحو أربعة عقود من الزمن، عزف فرقة حليم نويرة المصرية لألحان التراث مع كورال رائع بأسلوب أخذ بألباب المستمعين السوريين آنذاك، عبر تنويع ارتفاع الموسيقا وانخفاضها لتزيد جرعة الطرب. ولا ننسى، استلهام الأخوين الرحباني مع فيروز - وزياد وإلياس فيما بعد - بعض ألحان موزارت ومندلسون وسواهما، مع إعادة توزيع بعض ألحان سيد درويش عبد الوهاب. كذلك، لا تغيب عن البال بعض ألحان أغاني أم كلثوم التي لحنها رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي. وكذلك، بعض أغاني عبد الحليم حافظ التي لحنها عبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل.‏

ولا ننسى، بالطبع، الإبداعات الغنائية الرفيعة لمطربنا الكبير صباح فخري، الذي يتابع ابنه “أنس” الدرب بتجديد لافت. والحق يقال، تناقل تراث القدود الحلبية مطربون مميزون، منهم صفوان العابد ومصطفى هلال من الرجال، ومنهم ميادة بسيليس وشهد برمدا من النساء. ولا أنسى إحياء المطربة لينا شماميان أغنيات التراث الفولكلوري الشامي. وأود بهذه المناسبة أن أثني على إصدارات “دار الأسد للثقافة والفنون”، إذ أهداني مديرها العام السابق د. نبيل اللو عدداً من الأقراص الموسيقية، تضم مختارات من معزوفات العبقري عزيز غنام على العود والكمان، وكذلك ألحان مؤلفنا المبدع سهيل عرفة لمسلسل “ساري”، ومعزوفات لأمير البزق عبد الكريم، وقدود حلبية لفرقة “شيوخ سلاطين الطرب”، وحفل غنائي لفنانتنا الأوبرالية لبانة قنطار، مما يغني ذاكرتنا الحضارية، ويمزج الماضي بالمستقبل. نأمل مزيداً من المساحات الفنية في مختلف مجالات الإبداع بهذه الرعاية الكريمة التي عودت دمشق عليها ضيوفها الأكارم من الأشقاء والأصدقاء.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية