تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


هل يستعيد العالم نظام الأقطاب?

دراسات
الاثنين 1/9/2008
توفيق المديني

من مضاعفات وتداعيات حرب القوقاز البعيدة المدى على علاقات روسيا بكل الجمهوريات السوفياتية السابقة وبالغرب, أن الرئيس الأميركي المقبل سيرث عالماً مختلفاً جداً عن العالم الذي ورثه جورج بوش, سياسياً واستراتيجياً واقتصادياً.

وروسيا اليوم غير روسيا قبل عشر سنوات والصعود التدريجي لنفوذ موسكو في حقبة فلاديمير بوتين, المدعوم بعائدات النفط والغاز الكبيرة, يعني أن روسيا ستكون قادرة أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي على وقف المد الغربي عبر توسيع حلف شمال الأطلسي في منطقة نفوذها التقليدية في القوقاز وأوروبا الوسطى. كما أن ارتفاع أسعار الطاقة سيعزز نفوذ دول نفطية أخرى تسعى إلى تحديد نفوذ واشنطن في مناطقها مثل إيران وفنزويلا.‏

عقب نهاية الحرب الباردة, وانفجار الاتحاد السوفياتي ثم موته, تمت إعادة بناء العولمة الرأسمالية الليبرالية تحت حماية وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية, إذ سعت هذه الأخيرة إلى إعادة بناء النظام الدولي الجديد في نطاق هذه العولمة, وعلى شاكلتها ومثالها, والمستند إلى إيديولوجية الليبرالية الأميركية الجديدة التي أفرزتها الثورة المحافظة في الغرب بقيادة ريغان, تاتشر, وبوش, والتي تهدف إلى قتل الإنسان في عالم الجنوب, في تناقض كلي مع الإيديولوجية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية المنبثقة من الثورة الديمقراطية البورجوازية التي تهدف إلى تحرير الإنسان سياسياً وحقوقياً.‏

وفي الواقع, مع بداية القرن الحادي والعشرين, وعلى نقيض النبوءات الساذجة لفرانسيس فوكوياما عقب انهيار جدار برلين, ونهاية الحرب الباردة 1989, ظل النظام الدولي غير متجانس, أي أن الدول هي منظمة حسب مبادئ أخرى, وتتبنى قيماً متناقضة .‏

ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها على النظام الدولي الجديد أحادي القطبية, على الأقل مؤقتاً, فرضت قناعة على حكومات العالم وشعوبه بدور حكومة الولايات المتحدة الأميركية في فرض الآلية الجديدة للنظام الدولي الذي تريد فرضه في الشرق الأوسط, من خلال مواجهة العراق بقوى دولية واسعة وقوية بهدف تدميره. وتقدم لنا في منطقة الشرق الأوسط أحداث العراق الدامية, منذ ما يقارب خمس سنوات من الاحتلال الأميركي لهذا البلد, صورة مسبقة عما سيكونه مستوى العنف فيما إذا قيض للإمبراطورية الأميركية أن تصطدم بإيران الطامحة إلى امتلاك السلاح النووي, واندلاع حرب إقليمية ذات بعد عالمي يكون مسرحها الشرق الأوسط.‏

في العراق كانت الاستراتيجية الأميركية تقوم على تحقيق النصر وإقامة ديمقراطية تعتبر نموذجاً يحتذى به في عموم الشرق الأوسط. والنصر الذي يقصده الأميركيون يتمثل في عراق موحد وديمقراطي وعلماني, ومقاومته مهزومة من جانب الأميركيين وبمساعدة الجيش العراقي الجديد الموثوق الذي بنته الولايات المتحدة! بيد أن الحقائق على الأرض تؤكد أن القوات الأميركية الحالية (والتي يوشك بعضها أن ينسحب), لا تستطيع أن تهزم المقاومة..‏

وهكذا بتنا اليوم نحتاج إلى استراتيجية أميركية جديدة للخروج من العراق بعد إخفاق استراتيجية النصر التي اعتمدتها إدارة بوش المستوحية فلسفتها في إدارة الأزمات الدولية والإقليمية من إيديولوجية المحافظين الجدد. فقد اعتمد هؤلاء الحرب الاستباقية مذهباً لهم, في ظل نشوة انتصار الولايات المتحدة الأميركية عندما انهارت الشيوعية في العام 1989, وصدقت أن العالم تغير جذرياً تغيراً لا رجعة فيه, وافترضت أن التاريخ ذاته انتهى, وأن العولمة الرأسمالية الديمقراطية انتصرت إذ استطاعت الإجابة عن كل الأسئلة الكبرى, وأنها باتت القائد بلا منازع للنظام العالمي الجديد أحادي القطبية, وأن الناس العائشين في ظله, سيستكينون إلى اهتمامات دنيوية: بعضهم سيعمد إلى جمع الثروات, وبعضهم الآخر سيلجأ للإستهلاك.‏

ومنذ الغزو الأميركي للعراق, ما انفكت بعض الدول الأوروبية, تنادي بعالم متعدد الأقطاب لمواجهة العالم الأحادي القطبية العزيز على قلب جورج بوش. إن أوروبا الممسوكة بقوة من قبل المحور الألماني- الفرنسي, أصبحت أحد الأقطاب الرئيسية لهذا العالم المتعدد, يكشف على ذلك الصراع التنافسي الذي تخوضه مع الولايات المتحدة الأميركية على مسرح الشرق الأوسط, وإفريقيا.‏

نحن الآن لسنا في زمن تواجه فيه الولايات المتحدة الأميركية تحدياً مفتوحاً مباشراً كما كان في الحقبة السوفييتية, أو في عهد الجنرال ديغول والمحور الألماني- الفرنسي لمدة ربع قرن تقريباً. وإذا كان العالم لم يعد أحادي القطبية, فإن هذا لا يعني أنه أصبح متعدد الأقطاب. ولكن أليس هو في الطريق لكي يصبح ثنائي القطبية?‏

وحدها الصين الآن, التي أصبحت القوة الاقتصادية الرابعة في العالم, تمتلك الوسائل الكافية لمنافسة الولايات المتحدة الأميركية التي تخلت عن هديها إلى الديمقراطية. فمسألة تايوان, والميزانية العسكرية الضخمة للصين, وقدرة الصواريخ الصينية العابرة للقارات على تهديد نيويورك, هذه المسائل مجتمعة تمنع من أن يكون قرار السلام في هذه المنطقة من العالم حكراً على الولايات المتحدة الأميركية بمفردها.‏

الصين أيضاً تشكل قلقاً, لأنها مستمرة في تعزيز تحالفاتها الإقليمية, مع المناداة بطريقة ذكية ببناء تدريجي لنظام دولي متوافق بيد أن التوافق لا يعني الانسجام. وفي الواقع العملي تستمر بكين في بسط شبكة نفوذها لتخفيض تبعيتها في مجال الطاقة, وهي تتقاسم مع موسكو الهدف عينه, لجهة قضم الوجود الأميركي الذي تطور في آسيا الوسطى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.‏

وهكذا, هل نخشى فعلياً من رؤية تزايد عدم تجانس النظام الدولي, بدلاً من أن يتناقص. من هنا نستنتج العودة إلى نوع من حرب باردة جديدة. في الوقت الحاضر, تتبع الصين وروسيا نهجاً ديغولياً في السياسة الدولية (الاستقلال الوطني) ولكنه مجرد من كل محتوى إيديولوجي, على نقيض الحرب الباردة التاريخية, كل هذه التناقضات متجسدة حالياً بشأن إيران, وحرب القوقاز الأخيرة.‏

أما على الصعيد العربي فهناك غياب كلي للنظام الإقليمي العربي, الذي لو كان فاعلاً, لكان بإمكانه أن يقدم رؤية استقلالية لأزمات المنطقة تخدم مصالح الشعوب العربية في التحرر من السيطرة الأميركية- الصهيونية, ولا سيما في سبيل تعزيز نهج المقاومة من أجل تحرير فلسطين, وتشكيل محور عربي قادر على تقديم مشروع بديل من الاستقطابات الإقليمية والدولية للبلاد العربية.‏

< كاتب تونسي‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية