عبارات ترافق تلك النهاية التي لابدّ منها لكلّ إنسان حيث تلوح راياتها في الأفق معلّنة: أن لامحالة من الوداع ولو بعد حين!
ذلك القدر الذي ينتظر المرء مهما طال الأمد..وذلك المصير الذي لايحبه أحدٌ رغم أنه أسيره!
لقد قرأت كغيري وصية الأديب ( حنا مينة ) وتأثرت كثيراً..لكن: ونحن نحترم خصوصيته التي دفعته إلى نشرها..نقول له: مازال الوقت مبكرّاً, وقرّاؤك ينتظرون منك المثير على رغم الألم الذي خلّفته وصيتك.
كتب كثيرون عن ذلك ولم يبحثوا عن خلفيّاتها وعن الدوافع التي أدّت إليها..هل هو الحزن?..هل هو الإحساس باللاجدوى من الحياة?..هل هو ظلم الناس?
ومع أنني أحترم تلك الخصوصية, وذلك القدر لكاتب بهذا الحجم..فمن المحتّم أن ننظر إلى ماهيّتها وعمقِ مافيها من التعلّق بالفقراء الذين كانوا عماد رواياته وأعماله الأدبية.. ومن المحبة للاّذقية التي شهدت طفولته وشبابه وانطلاق مسيرته الأدبية.
واللاذقية التي فقدت أعلاماً مهمين على الصعيدين الأدبي والثقافي: لاتزال تعرف أنها ملهمةُ (حنا مينة) ومهدُ إبداعه ومنطلق أعماله.. فمن بحرها وتعبِ وفقرِ عمالها: غرفَ الكثير من موادّ رواياته.. وقدّم بين حناياها: إبداعه في أجلى صوره المتعددة.. من الميناء وشقاء العمال فيه إلى عذابات عمال ( الأمبريال ) وعمال (الريجي = مؤسسة التبغ).. ومن شوارعها التي طالما بحث الفقير فيها عن عمل يطعم أولاده منه. انطلقت مصابيحه الزرقاء وأتاه الثلج من النوافذ.. وشهدت نهاية رجل شجاع فقر صنعته المأساة.. وهي )اللاذقية( أهدتنا كاتباً ذا موهبة كبيرة صنعت نفسها بنفسها.
إن تلك الوصية تعيدنا بالذاكرة إلى السؤال الأهمّ: ماذا قدّمنا للكاتب الأديب في بلادنا?.. وهل أغنيناه عن الحاجة ووفرنا له ولأولاده. سبلَ الحياة الكريمة ليتفرّغ لمشاريعه الأدبية?.. وهل عندنا مبدع لاتشغله أمور الحياة وتأمين مستلزماتها للعيش?
كلنا يعرف أن شاعراً كبيراً مبدعاً مثل نديم محمد: عاش حياته بالفاقة والعوز. ورحل ونحن نعلم عنه ذلك!
أديب كبير مثل الراحل سعد الله ونوس: ماذا قدمنا له سوى معالجته بعد أن أدركه مرضه الأخير?.. حسبما أعلم: حصل - من جملة موظفي الدولة - على مسكن شعبي صغير في مساكن برزة مثلما حصل عليه بقية الخلق من الموظفين حينما وزعت عليهم الدولة مساكن شعبية !
وكلنا يتذكر )وعلى الأخص أبناء اللاذقية( أن القاص المبدع (عبد الله العبد): كان موظفاً بسيطاً في (الريجي) باللاذقية.. ومات وهو يعاني أزمات عدّة ليس أولها العيش الكريم.. وعندما نشر مجموعته )مات البنفسج( كانت الفاقة تحاصره من كل مكان, وظلّ في (الريجي) ذلك العامل البسيط دون أن يشفع له إبداعه !
ومن منّا لايعرف الشاعر الكبير سليمان العيسى?.. ومن منا لايعرف أنه شاعر العروبة والبعث? فهل يتذكر واحد منّا أنه كان يركب سيارة أو صاحب سيارة? بقي هو هو لاجديد في حياته وأوضاعه المادّية سوى أنه علّم أولاده بعرق جبينه!
من هنا لابدّ من القول: إن تكريم المبدعين في بلادنا لايكون ولايجب أن يكون: مجرّد مناسبة تقدّم فيها هدية رمزية وبعض الخطابات وفي أحسن الأحوال تطبع أعماله!
إن الأديب المبدع هو إنسان قبل كلّ شيء..له حقوقه علينا.. وله حياته المتشعبة ابتداءً من معيشته وسكناه, وانتهاءً بأوضاعه المادّية التي تستلزم القيام بحاجات الأسرة..فهل تكفيه - في هذا - خطابات وهدّية رمزية تجعله ينهض بتلك المستلزمات ويوفرها?!
لقد درجت العادة - سابقاً - ألا نتذكر المبدع عندنا إلا بعد أن يقدم أعمالاً كبيرة يتحدث عنها الأجانب أكثر مما يتحدث أبناء بلده.. عند ذاك نتذكر أن لدينا مبدعاً استثنائياً فتهرع الصحافة ووسائل الإعلام إليه!!
صحيح أن مبدعينا قد نالوا من )اهتمام الشهرة( عندنا: قسطاً وافراً..لكن الذي يدفع شاعراً كبيراً مثل سليمان العيسى بالسفر إلى اليمن والعمل هناك بعد أن تقدمت به السنون ?
أثقُ أن كثيرين سيقولون: لقد كرّمت الدولة عندنا المبدعين وأوجدت لهم وظائف يعيشون منها.. لكن هل تكفي الرواتب عند أي أديب مبدع: ليعيش ويعيل أسرته دون همومه ويتفرغ للابداع وحده?
في بلاد العالم كان ولايزال مبدعون كثر: عانوا ويعانون شظف العيش, ليس أولهم (فان كوخ) لكن أليس للإبداع حق علينا?.. حقّ الكفاية وحقّ العيش الكريم?
ولانعدُ الحقّ إذا قلنا: إن المبدعين في بلادنا أهمّ من أمثالهم في العالم!!.. فهم يتحملون قساوة الحياة, وقساوة تنشئة أسرة وتأمين مستقبلها: ومع ذلك يبدعون ويقدمون لنا وللعالم إنجازات أدبية أو فنيّة جيدة فهل يتساوى شخص من هذا النوع مع آخرين تتوفر لهم كل سبل الحياة والشيخوخة?!
فما بالك أيضاً بأننا كنا - في السابق - لانكرّم أعلامنا إلا بعد وفاتهم فماذا كان يفيدهم ذلك ?
وما فائدة نديم محمد ,وأمثاله من طباعة آثارهم بعد رحيلهم عن هذه الدنيا?.. صحيح أنها عدة للأجيال.. لكن أليس الأصحّ أننا لو اهتممنا بهم قبل ذلك الرحيل?
لقد خطت الدولة ووزاراتها ذات الصلة منذ عقدين أو أكثر. خطوات مشكورة في هذا المجال, فدأبت على تكريم المبدعين, وهم أحياء, وأقامت للعديد منهم ندوات تحدّث فيها الدارسون عن إنجازاتهم وأعمالهم المميزة.. ومع ذلك فنحن لانزال نتطلّع إلى أكثر من ذلك ونأمل أن يشمل ذلك التكريم: تأمين حياة كريمة لهؤلاء خلال مسيرتهم الأدبية والعلمية في جوانبها كافة.