ممدوح السكاف الشاعر والأديب يحل ضيفاً عزيزاً على صفحتنا الثقافية كل أسبوع في إطلالة نسميها ( عودة الغيمة الماطرة لتهطل حيث كان هطلها الأول)
شاعرنا المبدع يفتح جعبته بعد إلحاح وفي الجعبة ما يسر ويمتع ويضيء محطات كان شاهداً عليها.. يقدم في إضاءاته دفئاً إنسانياً ما أشد حاجتنا إليه في علاقاتنا الثقافية والأدبية . ممدوح السكاف عرفته صفحات الثورة منذ عقود , وها هو يعود إليها فمرحباً بشاعرنا وبما يقدمه وأينما كان زرعه اليانع فالحصاد لنا قراء ومتابعين فالمهم أن يبقى هذا الينبوع الرقراق متدفقاً معطراً بماء الحياة وجمالها.
الثورة
في الثلاثين من العمر كنت..أزهو على نفسي بنفسي: الشباب, الشعر, الحب, الأصدقاء, المستقبل, اكتشاف العالم... الرؤى الملونة.. الأحلام النبيلة.. قدرة التمرد على القديم البالي.. وصبوة متدافعة الى بناء الجديد الحالي: تلك كانت أهم مفردات حياتي وأحفلها بالزخم في مطلع السبعينيات من القرن الآفل, أعيشها بالروح والعصب والممارسة والتطبيق والأمل الواعد, وبنشوة فرح حزين يرنو دوما الى تجاوز ذاته ويرهف السمع الى خطا الزمن الجميل القادم بإيقاعه المتوثب المتناغم تبنيه الثورة في الوطن, وينمّيه الوطن في الثورة, وبينهما الإنسان صلة وصل وطاقة عمل وجسر أمان ينجز منجزاته ويفعل معجزاته فتنتصب القامة وتعلو الهامة للعبور إلى بوابة المستحيل بعد ليل التخلف الطويل..
آه ..ما أعذب تلك المرحلة من عمر لم يبق منه الآن إلا الرماد يشقى به..!!
وصنعت لي دفترا بسيطا متواضعا, رحت أخط على أوراقه بين الفينة والفينة لمحات من مذكراتي وأطرافا من يومياتي وقصائد من شعري, وأعود إليه بين حين وحين أبثّه نجواي واحتراقاتي وأصفيه أشواقي ولهفاتي.. ولست الآن بصدد ما يحويه بين دفتيه من ذكريات ومذكرات فقد يكون لاقيمة له ولا غناء فيه, أو قد يعتبر شيئا مهملا من خصوصياتي, لا يؤبه له ولايهتم بما فيه وقد يحسب شاهدا على مرحلة مضت وانقضت ولكنها كانت حافلة بالأحداث الوطنية الجسام والبطولات القومية العظام ترصدها السياسة في جانب والشعر في جانب وبين الجانبين ومن خلالهما تتجلى صورة النهوض الاجتماعي في سورية وحركة بنيان الدولة على اسس عصرية حديثة تصب قدراتها وطاقاتها في المساهمة المتقدمة بصنع الحلم العربي-المطلب العربي الوحدة العربية الشاملة طال الزمن أم قصر.
ولكنني بصدد الحديث عن تقليد مستحب استننته لنفسي متجاوبا مع تخيلاتي في تلك الفترة الدافئة الحنون بالعلاقات الإنسانية العامرة بالمودة- وهي تنزع الحداثة في الحياة والشعر-والمعجبة بتقاليد أدباء الغرب الأوروبي في تدوين ما يحدث لهم من أحداث ووقائع هامة أو بسيطة وما تختلج به أنفسهم الحساسة من عواطف وأفكار تراود خواطرهم وأحلامهم, فما كان يزورني صديق من الأصدقاء الأدباء قادم من محافظة شقيقة, في بيتي أو مقر وظيفتي مديرا للمركز الثقافي العربي بحمص آنذاك إلا قدّمت له دفتري المذكور, مستودع أفكاري وخزَّان أسراري وطلبت إليه راجيا أن يكتب فيه ما يشاء من صفحات أو أسطر في ختام جلسة لقائنا, هي خلاصة انطباعاته أو مشاعره في زيارته لي ولمدينتي الطيبة.
ثم مع مرور الوقت وتتالي السنوات ركنت هذا الدفتر على الرف حوالي ربع قرن لا أنظر فيه ولااسترجع ما خططت على صفحاته ولا أكتب جديدا على بياض أوراقه ولاأستعيد قراءة ما أتحفني به اصدقائي الشعراء من طيب الكلام المعبر عن سعادتهم وسرورهم بزيارة بلد ديك الجن الحمصي ووصفي قرنفلي وعبد السلام عيون السود وعبد الباسط الصوفي وغيرهم من سدنة القصيدة أو شداة الشعر.
وبينما أنا أنقب في أوراقي المنسية المهجورة, وهي تلال, وفي كراساتي المكدسة يعلوها الغبار,وهي أكوام, عن شيء أرغب في الاستفادة منه أو الاستناد عليه لإنجاز شأن أدبي أريد توثيقه, وبمصادفة لاتخطر على مروج الخيال, عثرت بهذا الدفتر الذي صادقني أعواما ثم تباعد الود عنه أو العودة إليه لكثرة الأعمال والأشغال والاهتمامات والهموم واختلاف المرحلة والظروف أو لسلوّه بعد انقضاء أجل طويل على غيابه عن الذاكرة, فأخذت أقلب أوراقه المصفرّة من الأطوار مرّت عليه وجعلته نسيا منسيا, وأقرأ ما فيها من الخواطر والبوادر فتدمع العينان تذكرا ويختلج القلب والصدر تفكُّرا, وتعود الى البال أحداث وأحوال غابرة كأنها اليوم في الواقع حاضرة, وأفاجأ بما غادر عقلي من أحداث في زحمة معركة الحياة وصعوباتها: هاهم أصدقائي الأقرب الى روحي ونفسي من الشعراء المجايلين لي تقريبا قد دوّنوا في دفتري البعيد كلمات حب وحنان, وبراءة طوية, يتحدثون فيها عن مدينة الشعر والثقافة حمص المعطاء في لغة من الود والنقاء, لا أحلى ولا أرق ولا أنعم ولاأجمل...
*******
علي كنعان:
تعرفت الشاعر علي كنعان وتعرفني في النصف الثاني من الخمسينيات وكنا لا نزال في مطلع العشرينيات من العمر ..جمعنا وقرب بيننا الفقر والألم والضياع والحلم والنزوع الثوري والفكر القومي والأدب عامة والشعر منه خاصة.. كان ولا يزال طفلا جميلا محببا في منتهى الحساسية والحرارة والشفافية وأدنى الى العزلة والانزواء وألصق بالصدق مع الذات والموضوعية في الأحكام والأمور مع مسحة من انفعال عاطفي عميق يتبدى في حواره وكلامه بالقضايا الجوهرية والمصيرية, ثم جمعنا التعليم كذلك في مدرسة إعدادية ثانوية خاصة بحمص نستنثر منها فتاتا من راتب هزيل في نهاية كل شهر ما عدا أشهر العطلة الصيفية, هو يعلم فيها الإنكليزية, وأنا العربية, وكان كلانا يدرس في جامعة دمشق في الوقت نفسه انتسابا وبقدر ضئيل جدا من الدوام على المحاضرات لي لضيق ذات يد أهلي, ومعتدل ثم متواصل له لقدرة أهله المحدودة على رفده بالضئيل, فتوثقت مع التجارب والمواقف وتشابه بعض الملامح النفسية لروحينا روابط صداقتنا, لم يشبها شائبة ولم يعكر صفوها معكر فيما يتراءى لي من الظواهر والتصرفات لكلينا لأنها من جبلّة النقاء صيغت ومن معنى الصفاء برئت, وإن أنسى لا أنسى قصيدة له رومانسية ثائرة ثورة ذاتية في بعض مقاطعها تجاوبت أصداؤها في الجو الأدبي الحمصي آنذاك, ردّدتها حناجر الشعر والشعراء والمولعين بالتجديد وحفظتها واعيّتهم, لما فيها من رعشة الإحساس وعمق الشعور يقول فيها-إن لم تخنّي الذاكرة-:
يا زليخا..
لم أكن عندك قديسا,
ولكنّي جبان..
في دمائي-آه لو تدرين فيها-
أفعوان..
زارني في مكتبي بالمركز الثقافي العربي الصديق الحميم علي في شتاء 1971 وحدثت زيارته في السادس من شهر تشرين الثاني لذاك العام, واستكتبته في دفتري, فكتب مرحبا هذه البوحة النابضة بالخصوبة والدفء وعبق الصداقة, أستأذنه-وإن لم تردني موافقته-في نشرها:
(مواسم المطر في حياتي أحلى المواسم وأغلاها.. وكان لقاؤنا في مستهل هذه المواسم وأنا أغوص مع الخيوط الندية المتدلية من سماء حمص الجديدة, أغوص معها في رحلة سحرية الى عالم الطفولة والصبا الأول..
في هذه المدينة كنت, طالبا.. لم يكن المطر بهذه المتعة.. وربما لم يكن بهذا المعنى.. لعله لم يكن مطرا.. طائرا يتيما كنت يخاف المطر ويلوب لهفان على عش في خصاص شباك دافىء أو تحت شجرة خضرتها لاتشيخ.
المطر انهمر قبل في الداخل.. في حديث صديقين. في قصيدة لممدوح تقول ما معناه: إن المطر يهمي دون إذن الرياح أروع ما لدى ممدوح ليس أنه شاعر.. أروع ما فيه أنه المحب الشاعر).
لا تزال صداقتنا-علي وأنا- إلى هذه اللحظة التي أنقش فيها هذه الأحرف بدم القلب وشجن الذكريات, على وشائجها وصميميّاتها على الرغم من أن شهورا وأحيانا سنين قد تمر لا يرى فيها أحدنا الآخر, لكننا معا أننا من معدن واحد أو متقارب أو متماثل, هو معدن الإنسان في شوقه الى المثال والأمة إلى تحقيق الآمال ويزيد من تقديري له واعتزازي به شاعرا أنه أحد أهم الأصوات المؤسسة والمبكرة لحركة الحداثة الشعرية في سورية بجيلها الأول وأن لشعره طعما يتفرد به عن سواه من شعراء مرحلته, يتسم بتلك النغمة المتشائمة والرؤى السوداء والحس الوجودي والغنائية الداكنة والرغبة في التجاوز والتخطي على كل الصعد, والبساطة الآسرة المحكمة والوضوح الفني في التعبير والتصوير عبر مجمل إبداعاته الشعرية.
أنا موعود منذ أكثر من حوالي أربعين سنة بزيارة لقرية صديقي علي واسمها(الهزّة) وهي من أعمال محافظة حمص لأرى الأرض التي أنبتت مع الخضرة والثمر شاعرا من رحمها الخصب لم يزل مرتبطا بجذوره وناسه وأهله مع أنه عاش في دمشق اعتبارا من مطلع الستينيات ,وغادرها بعد إلى اليابان حوالي خمس سنوات يدرس فيها العربية لليابانيين ثم عاد إلى الوطن وهو الآن يعمل في حقل الصحافة والأدب والفكر والشعر والتأليف والترجمة في دولة الإمارات العربية المتحدة وقد التقيته مرتين في مرابعها الحضارية أحلى لقاء وأشده اشتياقا خلال مطلع الألفية الثالثة من هذا القرن.. سهرنا فيهما حيث نزلت ضيفا محكما بمسابقة لأدب الطفل وردت نصوصها الشعرية من أقطار الوطن العربي في فندق من أرقى فنادق (أبو ظبي) سهرات رائعة لا تنسى نستعيد فيهما ذكرياتنا وكان بصحبتنا الصديق الأوفى الأديب النابه والمسرحي المعروف هيثم يحيى الخواجة والشاعر الدمشقي المرهف حسّان عزت أحد أهم شعراء قصيدة النثر المبكرين في سورية والشاعر السوري المبدع ( نوري الجراح) وقصائده المشغوفة بالمغامرات الأولى للحداثة والبحّاثة اللغوي العريق الأستاذ الدكتور عبد الإله نبهان والأخ الدارس الناقد حسان فلاح أوغلي ابن مدينتي( حمص) وكم سعدت عندما وصلني من الصديق علي آخر ديوان أصدره عام 2005 وعنوانه (برزخ الجنون) موشحا بإهداء غال علي يذكرني فيه (بمشاويرنا) في أحياء حمص القديمة خاصة خلال السبعينيات وينهي بتأكيد المحبة والتقدير لي), لكنها لم تستطع أن تشوه أصالته وصفاءه وحبه للطيبين فهل يتحقق هذا الوعد قريبا?!
يتبع