وهجر أكثر من مئة ألف مواطن عن مواقع سكناهم, فضلاً عن المعاناة التي لقيها الشعب جراء القرارات الهوجاء التي اتخذتها حكومتهم.
لاريب بأن الدولة الخاسرة الكبرى هي من أقدمت على بدء المعركة ألا وهي جورجيا المدعومة من اسرائيل والولايات المتحدة, ذلك لأنها اتخذت قرارات خاطئة, قادت إلى الخزي والعار لقواتها المسلحة, ومرغت كرامة شعبها وبلادها بالتراب.
هاهي الدبابات الروسية اليوم ترابض على بعد 25 ميلاً عن العاصمة الجورجية تبليسي, الأمر الذي يعطينا مؤشراً عما حدث, لكن لسوء الطالع نجد أن ميخائيل سكاشفيلي لم يستطع تفهم تلك الرسالة, ومازال يصر على قوله بأن بلاده لم تستسلم على الرغم من أن كل المؤشرات الدبلوماسية ومافرضه الواقع على الأرض , يؤكد أن جورجيا قد استسلمت وقضي الأمر.
وإذا ماأضفنا إلى ماذكرناه أن المقاطعتين الجورجيتين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا التي وعد سكاشفيلي بإعادتها إلى الوطن قد ضاعت منه إلى الأبد, وفقاً لما ورد باتفاقية السلام, حيث نجد أن جنود حفظ السلام الروس لن يقتصر وجودهم على المقاطعات المذكورة فحسب, وإنما امتد إلى داخل جورجيا وخارج نطاق المناطق المتنازع عليها.
من ذلك يتضح لنا أن سكاشفيلي لم يستطع تحقيق أي جدوى من مغامرته الطائشة, باستثناء بعض الدعم المؤقت من ناخبيه الذين لم يعد لديهم خيار آخر سوى الإعراب عن تأييده عندما أصبحت البلاد تنوء تحت الحصار, وبذلك سيجد الرئيس الجورجي نفسه ملزماً بدفع ثمن باهظ إزاء قراراته الخاطئة.
لاشك بأن تحديد الدولة الخاسرة الكبرى من الأمور التي يمكن بتها لكن تحديد الفائز الأكبر ينضوي تحت آراء متعددة, حيث نجد أن رئيس الحكومة الروسي فلاديمير بوتين قد حصل على بعض الرضا عندما أعطى سكاشفيلي درساً قاسياً, لثقته بأن هذا الرجل يتعاون مع القوى الغربية ضد مصالح موسكو بهدف تمكينه من تحقيق رغبته بالانضمام إلى الناتو, فضلاً عن الحماس الذي أبداه بشأن خط أنابيب باكو - تبليسي سكيهان, ذلك الخط الذي خططت له الولايات المتحدة بهدف قطع الطاقات المتوفرة في بحر قزوين عن روسيا.
لقد تحدت روسيا القطب الوحيد بنجاح كبير, وأثبتت للعالم أنها ليست بإحدى القوى الكبرى فحسب وإنما لاتكترث أيضاًَ بالتهديدات الأمريكية, مؤكدة ذلك بردها العنيف على جورجيا الذي يمكن أن يفسر بأنه يمثل رسالة موجهة إلى دول الاتحاد السوفييتي السابق تقول بأن روسيا مازالت دولة عظمى.
على الرغم من التفوق الذي تحقق لروسيا, لكنه يبدو أن احتمال بقائه لن يستمر لأمد طويل لأن الرابح الفعلي المقبل هم صقور الحكومة الأمريكية الذين لم تكن جورجيا بالنسبة إليهم سوى كبش فداء قدموه لاجبار موسكو على كشف قدراتها للغرب بعد أن أمست قصة الحرب على الإرهاب موضوعاً قديماً وباتت المواجهة مع ايران أمراً مازال يزداد تعقيداً عن الوضع السابق.
إن المؤسسات المنتجة للآلة العسكرية أصبحت بحاجة لاثبات تطورها وتجريب منتجاتها, وفي هذا السياق فإن وسائل الإعلام الغربية أخذت بالابتعاد عن الحقيقة, وكيل التهم إلى روسيا, ونعتها بأسوأ الصفات, متبعة في ذلك ذات الأساليب التي استخدمتها الأمس لتبرير الحرب على العراق واحتلاله.
هناك أمر آخر لابد لنا من أن ندركه وربما يشكل جزءاً من خطة واشنطن ذلك لأن ماحدث بين روسيا وجورجيا من نزاع قد مكن بولندا من الموافقة دون توجس على وضع نظام للردع الأمريكي على أرضها, وجعل التشيك تعلن موافقتها على تركيب الرادار لديها, وإفساح المجال لأوكرانيا بإبداء رغبتها بالاشتراك في صفقة الدرع الصاروخي الأمريكي الأمر الذي يجعلها تحت مظلة الحماية الأمريكية.
لقد ازدادت المخاوف لدى دول الاتحاد السوفييتي السابق بعد أن تشرذمت دوله, وأصبحت في وضع مهدد لاتحسد عليه, ذلك لأن تحالفهم القوي مع الغرب جعلهم في الصف المعادي لروسيا, وزاد من مخاوفهم التحذير المبلغ من روسيا إلى بولندا بأنها أصبحت هدفاً لها في أي حرب نووية في المستقبل, ولأن روسيا تقع على مقربة منهم.
وكان من ردود أفعال أوروبا والولايات المتحدة أن أخذت تهدد روسيا بالحرمان من اجتماع قوة دول الثماني, وتحذرها من التأثير على مستقبل عضويتها في منظمة التجارة العالمية, لكن عليهم التحسب لما يختارونه, إذ إن عزل روسيا سيمثل استراتيجية خطرة على نحو كبير خاصة بالنسبة لأوروبا الغربية التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الغاز الروسي.
ربما يكون الرابح غير المتوقع هو جون ماكين المرشح للرئاسة الأمريكية الذي تعطيه خبرته السياسية ميزة جديدة في المواجهة التي قد تقع بين الولايات المتحدة وروسيا.
صرّح بوش بأن استخدام أساليب التخويف والتهديد ليست بالأساليب المقبولة في القرن الحادي والعشرين ناسياً أو متناسياً الأساليب التي سبق وأن اتبعها مع خصومه, لذلك نجده يقول بأننا لسنا في عام 1968 عندما استطاعت روسيا تهديد تشيكوسلوفاكيا, واحتلال عاصمتها, وإسقاط حكومتها فهل نسي بوش مافعله بالأمس أم أن ذلك يمثل بداية لظهور مرض الزهايمر لديه أو أنه يمثل ازدواجية في المعايير التي دأب على اتباعها.