مهما حملت من تعقيدات واحتاجت إلى لغة تعبيرية عالية المستوى، فهي تسير بثقة وسط فضاءات استعراضية، مانحة الآفاق الخلاقة لمتابعيها، حيث عملت عليها بالتدريب والمران والجهد المستمر للوصول إلى خبرة احترافية وإتقان، يدرك بدقة ماذا يريد، والى أين يصل.. وهذا أيضا ما برز جليا عبر عرضها الأخير (خلق)، وهو مختبر تجريبي من مختبرات نوستولوجيا للرقص المعاصر، وذلك في أوبرا دمر بدمشق. العرض من تصميم وإخراج نورس برو..
زواج العرض بين فكرة الوجود وتطور مشاعر الإنسان عبر الزمن. العمل كان راقيا واحترافيا من خلال أداء الراقصين وتصميم الرقصات الحديثة، بعيدا عن ما هو سائد، فالعمل كان ثقافيا بامتياز من أكثر من منظور، أما الإخراج والسينوغرافيا كانا مميزين، وذي دلالا ت رغم الإمكانات الإنتاجية البسيطة، وقد كسر الفنان (نورس برو ) حواجز التقليد من خلال جو العمل، وقدم مادة إبداعية نخبوية بأسلوب عصري وحديث، أما الموسيقا التي رافقت لوحات العرض المختلفة، حملت التناغم، وكانت جميلة بحق.
حول العرض وأداء الفرقة وأعمالها بشكل عام، تحدث الفنان نورس برو فقال: الخلق وتطور المشاعر لدى الإنسان هذه الفكرة الفلسفية، كانت مادة المختبر الثاني للفرقة، والذي يختصرها بالرقص المعاصر، بعد تقديمها لأكثر من ثمانية أعمال، تنوعت مابين الباليه الكلاسيكي والفلكلور..
فمن خلال فكرة فلسفية وأسلوب راقص معاصر حديث، يتبع لمدارس رقص عالمية، تمت الترجمة لعالم إنساني واسع... فهناك محاور أساسية هي: البحث عن الشريك، البحث عن وطن، البحث عن الموسيقا، البحث عن الرقص والجسد، البحث عن الحب، مسارات تساوقت وتداخلت مع بعضها، وتحاورت بأسلوب فني راقص، استطاع التعمق في ماهية الإنسان ككل، كما هو في تطور حالاته ومتغيراته..
أما السينوغرافيا كانت مميزة تناغمت مع حركات الرقص المستمدة من أحدث ما توصلت إليه مدارس الرقص العالمية، حيث فرشت أرضية المسرح بالرمال في إشارة إلى التراب، الذي خلق منه الإنسان، وسيعود إليه وعن قصد حاولنا خلق تماه خاص للأزياء الرمزية، تلك التي تناغمت تحديدا وهذا الجو السينوغرافي.. سينوغرافيا خاصة ومعينة بكونها تشبه التراب، فهي من بداية الخلق أيام ادم وحواء مركزا... كيف يتعرف الإنسان على حواسه، وكيف هي علاقة الإنسان بالطبيعة والحياة وعلاقة الإنسان بمحيطه وغيرها.. ثم كيف هو تحدي دورة الحياة لديه.. ولمحات إنسانية كثيرة أوجزت إن صح القول.. كيف يتطور الإنسان.. عبر عمل لا يتجاوز 45 دقيقة من إنتاج دار الأوبرا ومشكور الأستاذ جوان قره جولي..
تخلل المختبر مشاركات شعرية بمثابة فواصل بين اللوحات للشاعر السوري مزاحم الكبع
وهذا العمل هو التاسع لفرقة سورية للمسرح الراقص بعد أعمال، إنسان، ليلة كحل، درب المجد، سورية قصة حب.. الخ
وأكثر ما لفت نظري بأن الجمهور تقبل الفكرة الفلسفية المطروحة، وتجاوز مسألة التركيز على ما يريده الجسد، بل التركيز على جماليته وما يقدمه من تعبير حركي، يعبر عن ما هو مطروح.. وبرأيي هذا انجاز متميز في المجتمعات الشرقية، إذ نفخر به حاملين المسؤولية في تقديم عمل معاصر ضخم للجمهور الراقي والمثقف والذواق، وعلى ما يبدو أنه من نتائج الأزمة الايجابية كان هناك إبداع نفخر به.. حيث تؤكد نتائجه من جهة ثانية ضرورة إعادة عرض العمل وعلى الجهات المعنية دعمه بشكل أكبر، ودوما
ننتظر عملا معاصرا بذات الروح والتقنية الحركية والجسدية والإخراجية للفرقة..
شارك في المختبر الراقصون والراقصات احمد مصطفى، هلا هندواي، مؤيد الهاشم، اليسار بدوي، مرح الزعيم، رانيا العبد الله والطفلة راشيل الفزاع.