لقد بلغت حدة تداعيات هذه الأزمة مستوى جعل الكثير من المهتمين والمتابعين لمجريات الأحداث والأمور من اقتصاديين وصانعي سياسات- بمن فيهم بعض الليبراليين- إلى الاعتقاد (ومن ثم المناداة) ببداية نهاية أو حتى بنهاية الفكر الليبرالي القائم على النظام الرأسمالي والعولمة ودور آلية السوق في التوزيع الأمثل للموارد المتاحة بشكل يفضي إلى التوازن الاقتصادي وما يصاحبه من استقرار اجتماعي وسياسي وغيره, وبالطبع حدوث الأزمة شكل فرصة ذهبية لمعاديّ الفكر الليبرالي والرأسمالية العالمية وغيرهم لشن هجوم حاد لارحمة فيه ولا هوادة على أساسيات ومبادىء هذا الفكر وانعكاساته على حياة الأفراد والشعوب في عالمنا, منطلقين من أن نتائج هذه الأزمة التي بدأت مالية ومن المتوقع أن تلقي بظلالها على الواقع الاقتصادي أثبتت وبالدليل القاطع - كما يعتقدون- أن آلية السوق ليست هي اليد السحرية الكفيلة بتنظيم عمليات الانتاج والتبادل والتوزيع وما يرافقها من أنشطة بما يضمن رفاه المجتمعات وتطورها (كما نادى آدم سميث ومن بعده من منظري الاقتصاد الحر والفكر الليبرالي), بل على العكس لقد أثبتت هذه الأزمة - كما يقول معادوالفكر الليبرالي- حتمية دور الدولة في التدخل الكامل بجميع الأنشطة الاقتصادية وآليات السوق من أجل الحفاظ على الموارد القومية ومصالح الفئات الفقيرة من الشعوب, بالطبع ساهمت دعوات كبار الاقتصاديين وصانعي القرار السياسي والاقتصادي في العالم- بدءاً من معقل الرأسمالية العالمية (الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي), مروراً بمهد الفكر الليبرالي التحرري (بريطانيا وحلفاؤها الأوروبيون وعلى رأسهم فرنسا), ومروراً أيضاً بمهد فكر اقتصاد السوق الاجتماعي (ألمانيا), وانتهاء بالاقتصاديات الناشئة في آسيا وأوروبا- والتي نادت بإعادة صياغة النظام المالي العالمي بشكل يضمن المزيد من الإشراف والرقابة الحكومية من أجل منع تكرار حدوث الأزمة المالية الأخيرة, لقد ساهمت هذه الدعوات في تعزيز ثقة أولئك المطالبين برأس الرأسمالية العالمية واستبدالها بنظام عالمي جديد يقوم على أسس مختلفة تتماشى مع ما يؤمن به كل أولئك من أفكار وإيديولوجيات. في هذا السياق, ترد مساهمتنا هذه التي ننشد منها إجلاء الضباب عن بعض النقاط والقضايا المتعلقة بالأزمة المالية الأخيرة وتداعياتها على الاقتصاد العالمي, باعتبار أن القاصي والداني في هذا الكون أصبحا على علم بشكل أو بآخر بآليات نشوء هذه الأزمة وانعكاساتها من خلال مانُشر وكُتب أو بثّ عنها في مختلف وسائل الاتصال الحديثة, فإنا سنخصص الجزء الأكبر من حديثنا للإجابة عن السؤال الأساسي الذي طرحناه في المتن وهو عن درجة انعكاس هذه الأزمة على الفكر الليبرالي واقتصاد السوق الحر وعن كيفية الاستفادة من دروس هذه الأزمة من أجل تفادي تكرارها في المستقبل.
بداية, نذكّر الجميع, أن هذه الأزمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في اقتصادنا العالمي, فكلنا يذكر أزمة الكساد العظيم عام 1929, وأزمة الاثنين الأسود عام 1987, وأزمة جنوب شرق آسيا عام 1997, وغيرها من أزمات سابقة ومتخللة لتلك التواريخ. بالطبع تشير وقائع الأحداث التي تلت هذه الأزمات إلى تجاوز هذه الأزمات وربما الانتقال إلى أوضاع أفضل مما كانت عليه قبل حدوث الأزمات, بالطبع, لا أحد ينكر أن كل هذه الأزمات ترافقت بآثار كارثية في حينها منها: الكساد, ارتفاع معدلات البطالة, وزيادة معدلات الفقر وحالات الانتحار وغيرها من كوارث اجتماعية وإنسانية, بالمقابل لا أحد ينكر أنه تمت الاستفادة من دروس وعبر هذه الأزمات بشكل مكّن من تجاوز آثارها الكارثية والانتقال إلى حال أفضل.
السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة (إلى أي مدى استفادت مجموعات البشرية على اختلاف إيديولوجياتها واتجاهاتها السياسية والاقتصادية من دروس وعبر هذه الأزمات من أجل تفادي الوقوع في غيرها?), الجواب وببساطة, ليس إلى حد كبير, حيث يبدو أن البعد الزمني لذاكرة الإنسان- وإن طال- قصير, إن لم يكن قصيراً جداً,فسرعان ما ننسى ماوقعنا به من أخطاء ونعيد تكرار هذه الأخطاء وبشكل أكبر مما كان سابقاً وذلك نتيجة عدة عوامل منها: الإهمال ومنها الجشع والطمع. بالطبع, لقد ساهمت الأزمة المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي بزيادة الشعور بخطورة الأزمات المالية وآثارها السلبية على الاقتصاد العالمي (الحقيقي)- وخصوصاً في ظل عولمة هذا الاقتصاد العالمي والتطور التكنولوجي الهائل وغير المسبوق في فترة التسعينيات الذي ساهم في سهولة وسرعة القيام بالصفقات المالية والتجارية , ما حدا بالكثير من الدول والمنظمات العالمية وعلى رأسها (صندوق النقد الدولي), و(بنك التسويات الدولية), لكونهما الجهتين الدوليتين المناط بهما مراقبة النظام المالي العالمي وضمان استقراره- إلى المناداة بضرورة إرساء مجموعة من القواعد والأنظمة التي تنظم آليات عمل أسواق المال العالمية والنظام المالي العالمي بشكل يؤمن استقرار الاقتصاد العالمي ويجنبه حدوث الأزمات, ففي حزيران من عام 1999 قامت لجنة بازل- وهي لجنة مختصة بوضع الأنظمة والمعايير الناظمة لعمل المصارف والإشراف عليها ظهرت عام 1988 كمحاولة من )بنك التسويات الدولية( لوضع أسس جديدة للمراقبة والإشراف على عمل المصارف والمؤسسات المالية في العالم- بتعديل أسس و أنظمة مراقبة عمل المصارف, حيث سميت الأسس الجديدة (دعائم بازل2), والتي هدفت إلى تعزيز قدرة المصارف على تقييم درجة المخاطر وكفاءة رأس المال وبالتالي تجنب الأزمات, وقد استمرت عملية تحديث وتعديل هذه الأسس حتى عام ,6002 حيث بدئ بتطبيق هذه المعايير والأسس في معظم إن لم يكن في كل المصارف والمؤسسات المالية العالمية, إضافة إلى ذلك فقد انبثق عن لجنة بازل مايسمى ( منتدى الاستقرار المالي) الذي هدفه الأساسي تتبع ومراقبة عمليات وأداء المصارف والمؤسسات المالية والتأكد من تطبيق معايير )بازل2( بشكل شفاف يؤمن استقرار النظام المالي العالمي, وقد أصدرت لجنة بازل في سياق عملها ضمن (بنك التسويات الدولية) مجموعة من التقارير والدراسات التي هدفت منها إلى تحليل ودراسة تطورات النظام المالي العالمي وأسباب الأزمات المالية والمصرفية التي مر بها عالمنا الحديث في السنوات القليلة الأخيرة, ففي ورقة العمل رقم 13 الصادرة عن هذه اللجنة في نيسان عام 2004 تم التطرق وبالتفصيل إلى مجموعة من الأزمات التي أصابت الأنظمة المالية العالمية خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات وأواخر القرن الماضي, ومنها أزمة جنوب شرق آسيا في نهاية تسعينيات القرن الماضي, و أزمة السويد(1991-1994), وأزمة اليابان (1994-2002) وأزمة النرويج (1983-1992), حيث خلصت هذه الدراسة إلى عدم فعالية معايير بازل 1 في تجنيب الاقتصاديات العالمية مجموعة المخاطر التي مرت بها, وإلى أن عدم تطبيق معايير بازل 2 بشكل كامل أدى إلى الوقوع في الأزمات المالية خلال أواخر التسعينيات وبداية القرن الحالي.
إذا كان هذا هو الواقع, فما الذي استجد? ولماذا لم يستطع العالم تجنب الوقوع في الأزمة الأخيرة? يأتينا الجواب عن هذا السؤال على لسان السيد نوت ويلنك وهو رئيس لجنة بازل خلال المؤتمر الاقتصادي السادس والثلاثين الذي عقد في فيينا في 28 نيسان عام 2008- والذي أشار فيه إلى وجود الأزمة المالية الأخيرة حتى قبل أن تطفو على السطح كما هي الآن - حيث أكد أن تأخر دول العالم وخصوصاً أوروبا وأميركا في تطبيق معايير بازل 2 كان أحد أهم الأسباب وراء اندلاع الأزمة المالية التي تعود جذورها إلى عام 2006, حيث أشار في خطابه إلى أن لجنة بازل حددت مجموعة من نقاط الضعف والاختلال في عمليات الرقابة والإشراف المصرفي في العالم في شهر كانون الثاني من عام 2006, وأنها أشارت إلى خطورة هذه النقاط وضرورة معالجتها من قبل المصارف المركزية من خلال التشدد في تطبيق معايير بازل 2 . بدوره أشار منتدى الاستقرار العالمي في تقريره حول تعزيز مقاومة الأسواق والمؤسسات المالية - الذي صدر بتاريخ 7 نيسان 2008 والذي أتى استجابة إلى طلب وزراء مالية الدول السبع الصناعية وحكام المصارف المركزية في هذه الدول في اجتماعها في شهر تشرين الأول من عام 2007 من أجل دراسة واقع الأزمة ووضع حلول تمكن من مواجهتها قبل استفحالها- إلى أن التوسع في عمليات الإقراض مع ما رافقها من زيادة درجة المخاطرة لدى المقرضين والمستثمرين, وعمليات توريق تلك القروض ذات المخاطر العالية من خلال تحويلها إلى أوراق مالية باستخدام المشتقات المالية وتداول هذه المشتقات في الأسواق الثانوية مع مارافق هذا التداول من عمليات مضاربة كبيرة, مهد لظهور الأزمة التي انطلقت شرارتها صيف عام 2007 مع ظهور أزمة قروض الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية والتي نجم عنها خسائر هائلة في ميزانيات المصارف وشح السيولة وانخفاض أصول هذه المصارف, من ثم أشارالتقرير إلى أن الإجراءات القصيرة الأجل التي قامت بها السلطات المصرفية المحلية التي هدفت إلى إعادة الثقة في سلامة المؤسسات المالية ومساعدة بعض المصارف المتعثرة, لم تكن كافية لحل الأزمة ولم تنجح في إزالة القلق والتوتر في القطاعات المصرفية, وإنه لابد من اتخاذ مجموعة من الإجراءات البعيدة الأمد ومنها: تعزيز عمليات المراقبة المصرفية وإدارة المخاطر, زيادة درجة الشفافية والإفصاح عن المعلومات في المؤسسات المالية وغيرها من إجراءات هدفها تطبيق معايير بازل 2, إضافة إلى ذلك ذكر التقرير أن منتدى الاستقرار المالي سيعمل مع لجنة بازل على التأكد من تطبيق التوصيات والمعايير بالشكل الذي يضمن تقليص مخاطرالأزمة وتجنب اتساعها وصولاً إلى القضاء عليها, وهذا ما أشار إليه تقرير رئيس المنتدى إلى وزاء مجموعة الدول الثماني الصناعية في 11 حزيران من عام 2008 حول تقييم تطبيق توصيات المنتدى التي وردت في تقريره السابق, حيث أشار رئيس المنتدى إلى أن هناك تطوراً ملموساً في واقع المؤسسات المالية التي كانت مضطربة وأن هذه المؤسسات استطاعت الحصول على رؤوس أموال جديدة, ما مكنها من تخطي مشكلة نقص السيولة وغيرها من مخاطر, مع ذلك, أشار التقرير إلى أن أسواق المشتقات المالية والقطع الأجنبي لاتزال غير مستقرة وأنها تحتاج إلى فترة زمنية للعودة إلى وضعها الطبيعي قبل الأزمة, أيضاً شدد رئيس المنتدى على أن العمل جارٍ مع كل الأطراف من أجل تجاوز أبعاد الأزمة وأنه سيتقدم بتقرير حول تطورات الأزمة في اجتماع وزراء مالية مجموع السبع الصناعية في تشرين الأول من عام 2008.
في تموز من عام 2008 نشرت لجنة النظام المالي العالمي المنبثقة عن بنك التسويات الدولية ورقة بحثية تقيم فيها دور المصارف المركزية في الاستجابة إلى الأزمة والإجراءات التي اتبعتها, حيث خلصت الدراسة إلى أن إجراءات المصارف المركزية من خلال التدخل في السوق النقدي استطاعت التخفيف من حدة الأزمة ولكن لم تحلها نهائياً, قدمت الدراسة مجموعة من التوصيات حول آلية تدخل المصارف المركزية في السوق النقدية والمالية من خلال سياسات سعر الصرف, وسعرالفائدة والإقراض الداخلي بين المصارف والاحتياطي من القطع الأجنبي وغيرها من سياسات.
خلصت الدراسة إلى احتمالية تحويل السيولة بين الدول في حال تفاقم الأزمة والخوف لدى أصحاب هذه السيولة وبالتالي ضرورة وضع خطة متكاملة بين المصارف المركزية من أجل تفادي ذلك أيضاً أشارت الدراسة وبوضوح إلى أن سوء فهم وتفسير إجراءات المصارف المركزية من قبل أصحاب السيولة والمستثمرين قد ينعكس سلباً وبشكل كبير, وبالتالي لابد من التواصل وبشكل واسع مع كل الأطراف في أي إجراءات أو سياسات يتم اللجوء إليها لكيلا تتم إساءة تفسيرها وما يحمل ذلك من عواقب.
لكن يبدو أن كل ماتم القيام به لم يجد نفعاً لمواجهة حالة الهلع التي تطورت عن حالة القلق التي سادت في فترة ما قبل شهر أيلول عام 2008, والتي تعكس حالة انعدام الثقة لدى المودعين والمستثمرين وغيرهم من أصحاب الشأن بقدرة سياسات وإجراءات المصارف المركزية على تصحيح الاختلالات في النظام المالي العالمي, حيث ظهر مايسمى في العرف الاقتصادي أثر )العدوى( الذي يعكس الحالة السيكولوجية للفرد الاقتصادي عند اتخاذ القرارات, حيث انتشرت عدوى وحمى الهلع في كافة مفاصل ومؤسسات النظام المالي العالمي شماله وجنوبه, شرقه وغربه, لقد ساهم تأخر تحرك حكومات الدول والمنظمات الدولية في التحرك السريع والمباشر لوضع سياسات موحدة على المستوى المحلي والعالمي من أجل احتواء ) عدوى الهلع( والتقليل ما أمكن من خسائر أسواق المال وانهيارات المؤسسات المالية وفي تفاقم إرهاصات هذه الأزمة المالية التي تشير كل التوقعات إلى أنها ستؤدي حتماً إلى آثار سلبية كبيرة على الاقتصاد الحقيقي في العالم وما يرافق ذلك من كساد وتراجع في النشاط الاقتصادي وتزايد في الفقر والبطالة وغيرها من مظاهر الأزمات الاقتصادية.
الغريب في الأمر هو تأرجح سير الأحداث خلال الأيام القليلة الماضية, ففي حين شهدنا استرجاع أسواق المال عافيتها في بعض الدول بعيد سلسلة الاجتماعات والمؤتمرات الأخيرة لقادة العالم وصانعي القرارات, وإذ بنا في اليوم التالي نستيقظ على وقع الأخبار السيئة حول عودة الخسائر إلى نفس تلك الأسواق, من الجلي أن العامل النفسي للأزمة والذي يتلخص في فقدان عامل الثقة بسلامة الإجراءات الإسعافية التي تمت محلياً وعالمياً وعدم قدرة المؤسات المالية العالمية على تجاوز الأزمة, يبقى العنصر الحاسم في تحديد أبعاد هذه الأزمة ومنعكاساتها على الاقتصاد العالمي, يبدو أنه يجب علينا الانتظار أياماً أخرى لنرى صيرورة الأحداث وما ستؤول إليه الأمور, هل هي نحو حلحلة الأوضاع إيجابياً, أم إنها بداية أزمة اقتصادية شاملة ستعيد إلينا ذكريات مرة من المعاناة والفقر والكساد والبطالة والانتحار وإلى ماذلك من كوارث.
ختاماً, هل ستشكل هذه الأزمة فعلاً بداية نهاية الفكر الليبرالي القائل بمبدأ الحرية الاقتصادية ودور المبادرات الفردية في قيادة وتوجيه دفة الأمور نحو الأفضل? أم إنها سحابة صيف وجدت لها موئلاً في سماء عالمنا وأحبت أن تذكرنا أن ترك المبادرات الفردية والحريات الاقتصادية على الغارب من شأنه أحياناً أن يفضي إلى المآسي? وأنه من الحكمة دائماً وأبداً وجود ضوابط ناظمة لآليات السوق والتأكد وبشكل مدروس وحازم من كيفية وآلية تطبيق هذه الضوابط من أجل ضبط التجاوزات في الوقت المناسب ووضع الحلول الناجعة التي تكفل نجاح آليات السوق في التوزيع الأمثل للموارد وسد الاحتياجات المتزايدة.