يرتبط تحققها بنسبة التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والثقافي، والحقوقي في كل بلد، وكلما تقدم البلد المعني على طريقها فَتَحَتْ له أبوابها فضاءات جديدة لها حتى تكون آفاقها صاعدة على الدوام، ومستمرة نحو الأمام. والحرية في نظامها، وتنظيمها تملك جدلياتها، وتكتسب مجالاتها وتظل دوماً نقلة متواصلة في قيم الذات والآخر، ومنعطفاً مؤشراً في نمو العقل وتفتحه على قيم المشاركة والقرار الجمعي، وعلى قيم المواطنة الواحدة في الوطن الواحد، وعلى قيم العقل الناهض في الحاضر الناهض، والشعب المتوثب للمزيد من الحراك والتحرك في مشروعه القومي التوحيدي التحرري الديمقراطي.
ومن أخص ما تملكه الحرية من خصائص هي أنها مرتبطة بالعقل إذ لا يمكن أن تنبت بذرتها خارج تربة العقل ولذلك هي مندمجة بالوعي وبدون الوعي لا يمكن أن نتصور أي شكل من أشكال الحرية.
وحين قدّم المفكرون فلسفتها للمجتمع والناس قالوا عن ارتباطها بالضرورة وعياً وممارسة والضرورة المقصودة تشتمل على القوانين الاجتماعية والطبيعية الحاكمة بالفعل، أم بالضرورة. وبناء عليه فالوعي هو المحدد الأساس للحرية، والحرية صنو الوعي في أي تحولات من أجلها. فالوعي بالحرية، والحرية الواعية المدركة للقوانين التي تتحرك ضمنها وتستهدف تغييرها هي الحرية العاقلة والموضوعية والواعدة بخير للمجتمع والناس. أما حين تمارس قيم ونشاطات تحت شعار الحرية وهي تخلو من أي منظومة للعقل والوعي اللازمين فلا بد أن تكون مثل هذه الحرية هوجاء، بل عرجاء لا تقوى على المسير في طريق المستقبل. والمستقبل لن يكون سوى بقدرة حرية الوعي اللازم، كما الوعي بالحرية وبتعييناتها يقود الناس إلى وطن التقدم والنجاح والآمال لجميع من فيه.
ومثلما للوعي الوطني أشكاله وتجلّياته كذلك للحرية الوطنية أشكالها وتجلياتها. فالوعي المحصّن للوطن يحضّر القوى الفاعلة في البناء والتنمية عبر مشروع المستقبل، والحرية في وعيها لضرورات العمل الوطني المتعاضد والمتلاحم تستحضر أمتن لبنات البناء والديمقراطية والديناميات المنشودة. وبناء عليه فالحكم بين الحدّين: الحرية والوعي والحاكم بينهما هو المقدار المتحقق في تضايفهما مع المصالح الوطنية العليا للناس والمجتمع، ومن غير الطبيعي أن نضع الحرية في مواجهة الوعي وتبقى حرية، أو أن نضع الوعي في مواجهة الحرية ويبقى الوعي سليماً وعلمياً وعلى هذا النحو تتأصل قضايا الحرية بالوعي والعقلانية، وكذلك يتأصل الوعي بالمقدار المسؤول من الحرية حيث إن المسؤولية لا يمكن أن تفك ارتباطاتها بالحرية ولا العكس، وأيضاً الوعي بالمسؤولية، والمسؤولية الواعية كلاهما يبني مداميك الحرية لترتفع جدرانها، ويرتفعا معاً.
وفي الحاصل الذي نتوجه إليه، ونحن نصر على التقدم نحو الحرية، وبها ننظر إلى الذين يطرحون المشاريع الوطنية تحت شعارات الحرية فنراهم يدمرون باسمها: العقل والوعي والمسؤولية والسلم الأهلي، فإذا دمّرنا هذه الروافع فبأي رافعة نرفع الحرية في الوطن المهدوف إليه, وإلى أي وطن نتوجه يوم تغيب الروافع التي يقوم عليها؟!. وهنا تصبح المسألة واضحة في أننا نريد حرية التفلّت من الوطن، والتفلّت من العقل والوطنية، وحرية الجري وراء مشاريع الخارج، أو حرية التدمير للجغرافيا والتاريخ والروابط والعقد الاجتماعي، وفتح بوابات الوطن للبرابرة الجدد القادمين برياح الموت، والخراب، والحرب الأهلية، وسقوط القيم. نعم حين نقصي المصالح الوطنية العليا للشعب تحت تأثير المصالح الأمروصهيونية صاحبة الأولوية نخرج من تاريخ الوطن وجغرافيته وندخل في الوطن المستباح فاقد السيادة والحرية والاستقلال. فمتى كانت الحرية حرية الأجنبي في توجيهنا، وحرية العدو في غاياتنا الوطنية يدخل إليها ويدير دفّتها كما يشاء؟ ومتى كانت الحرية إرهاباً يتفجر بالناس يأكل الأمن والأمان، والمستقبل والاستقرار؟!
إن الذي رأى عيون الشمس الدمشقية الدامعة يوم الجمعة الفائت، لا يمكن أن يحبس الدمع في المآقي على من ذهبوا شظايا بشرية في فضاء المكان وتحولوا إلى كتل من نار ورماد وعويل. من ذا يُعلمنا هذا، ونحن على طبائع؟! نحن الذين قيل عنا حين كنا الفاتحين: لم يشهد التاريخ أرحم منا. ما الذي جرى اليوم حتى نحوّل جسد الأطفال إلى أتونٍ ولهبٍ؟! منذ متى صارت النار المحرقة واللظى هي أدوات الحوار الوطني الوحيدة؟! هل نحن الآن نشبه العرب الذين عُرفوا في التاريخ، أم إننا من عرب لم يتعرّف عليهم أي تاريخ؟ متى كان جسد الطفل جسر العبور إلى الحرية؟! متى كان العابرون الآمنون في وطنهم الآمن هدف النار التي ستوقد؟! إن يوم الجمعة لم يترك الضياء المقدس فرحاً في فضاء دمشق وسورية، بل اقتحم بسواده ليطفئ نور الوطن والناس، وبكت سفوح قاسيون ومساجد سورية وكنائسها على الدم السوري الذي هرق بدون ناتج من أجل الحرية، بل الذي ظهر في بركان الحقد على الآمنين يجعل الحرية متنصّلةً من هؤلاء الذين لم يعرفوا منها سوى حرية القتل، وتدمير السلم الاجتماعي والوطن ، وضياع الاستقلال.