وتعاون مع الغيمات لسقي الأطرف والشجرات المبتعدة... بعده بحزنين أو بثلاثة أحزان استلهم الولد همة الأرض والعرض، وبدأ برفع الأعمدة الأولى للبناية الواسعة المشرفة..
- ماذا تريد أن تعمل يا اسماعيل؟
- الأب أخبرني أن أحيط حبه البسيط بالأمان والرعاية والجهد..
- وحدك لا تفي بحاجات عمارة شاهقة وإطلالة سامقة.
- وحدي ومعي قلبي والكثير من الحب.. وأساسات العواطف مبنية منذ عهد الوالد وقبله بعهود ووعود..
واستذكرت حسناء التلاوية أنباء شداد وأخبار مساعيه العشقية التي خابت مرات ومرات..
واستذكرت علاقاته وجيرته الجيدة وجيرانه الجيدين، الذين دعموا أرغفته بالزيت والملح والسمسم، يوم جاع وقلت حبات قمحه.. ورغم كل الضائقات والملمات.. وضع حجر الأساس لعاطفة شوق، ورسم الشبابيك، قبل أن يحين موعد الشبابيك وشمس النهار:
نهيئ للضوء قبل قدومه، لأن أفكار الحب، حين تتم ولادتها، تحتاج التنفس الجيد والهواء.. وتحتاج أكثر ما تحتاج الشرفات وعافية الضياء كيلا تصاب بالاختناق والسعال الديكي.
كدجاجات أم نواف، التي حزنت لفراقها وداخت وشاخت واختنقت.. قنُّ الدجاجات والأفراخ متميز من حيث المكان والعشب الذي أمامه لكن غياب الحارسة أفقد المكان صحوه وضيع على الصيصان فرصة الطمأنينة والرعي.. أم نواف جارة قوية لشداد، أعانته يوم بدأ الأساسات الأولى للعمارة.. هو استعار الزيت وحبات الحنطة.. وهي خاطت الحكايات الرشيقة وقمصان عيش الأولاد والبنات، إلى أن شبوا على الطوق والاحتياجات.. وبذكائها الفطري أقامت علاقات ساطعة مع الأهل والأقرباء واهتدت إلى البقاء وشيء من الرخاء والنماء...
هاجس العمارة وفكرة زيت الجيران وخبز الأحزان ظل يشغل بال اسماعيل.. وكل حزن يشتد حيله أكثر، ويرفع حائطاً وراء حائط.. ويبتكر نوافذ لتسلل الضوء.. وينسى بين الحيل والحيل أن يرجع إلى الأرغفة وطعم الزيت ليشد من أزر روحه بقوت الجسد... وهذه خطأة أبناء الحب البسطاء جداً أنهم يهملون عافية حواسهم.. بعد عدة شقاءات أصيب ظهر اسماعيل بالتراخي والتصدع:
- ما الحيلة أمام واقع حال العمارة ونوافذ الضوء وظهر الرجل المتراخي؟
تجمع رجال ونساء وأحباب وأصحاب وفكروا بإنجاح فكرة العمارة الجامعة وشبابيك النهار..
وأخبرت خياطة الحكايات وقمصان العيش:
لا تتمهلوا بالسطح والأسوار والجهات.. العتمة تخيف الناس حين يهجرون أساسات عواطفهم، وترعبهم أكثر بقدر تخليهم عن باقي العمارة والأعالي والشرفة والأبواب..
رحل شداد منذ أحزان كثيرة... ولحقت بالرحيل الخياطة البارعة بمد خيوط الرجاء والصبر والفنانة برتق رغباتها بإبر الأحلام الناعمة.. وتفوقت بخبرتها الحسنة بإبرة الخشونة، التي خاطت بها ثياب شقاء طويل القامة وعريض الكتفين...هاجرت وهاجر، وبقي فن عمارة الجيران الطيبين الذين يتعاونون من أجل الخبز والحب والزيت والحكايات وعمارة الضوء المبنية على أساسات العواطف غير المغشوشة.. لكن رضوض روح اسماعيل وتصدع ظهره، أفشل العديد من الأفكار والجدران... وازداد الفشل على مخططات البنايات التالية التي احتاجتها مصائر عواطف الناس الجديدين.
مهندسو الأشواق بشر بسطاء وطيبون ووطنيون وأخلاقيون بالفطرة.. ولديهم همة عالية لدرء أخطار العتمات وهبات عواطف اليأس والمصائب.. هندسة الحب الإنساني بدأت مع عقل الضوء ووعي الرأي والرؤى والقناعات الطفلة والشابة.. والوطن مهندس المهندسين في هذا الفن الراقي، والذين يتحالفون مع عتمة أذهانهم وظلامية الأيام الشاحبة مثل تجار الجملة الخاسرين.. ومثل تجار «المفرق» الذين يقدرون أمور البيع تقديرات خاطئة، فيسقطون بعدها في وهم الربح بدل الربح.. وأبشع من كل هذا الذهاب بعد مفترقات الحب الوطني وأساسات العواطف الجيدة، دون الاهتداء إلى الضوء أو بيدر النهار أو أي رغيف أحزان أو حنان..
شداد رغم قلة ماله وحاله عاش حنوناً وطيباً ورحل كما عاش.. جمع الرغيف إلى الرغيف واللقمة إلى اللقمة والهمة إلى الهمة والزيت إلى الزيت..
واسترشد بهدي عواطفه الصالحة للبقاء وبنى أساسات لابأس بها ولا عيب عليها.. في المدارس الابتدائية كانت الآنسات تكتب على دفاتر الطلاب: شوهد.. أو لابأس.. فيعرف الطلاب أنهم مقبولون..
والمحبون الفقراء يعرفون من وجدانهم: الـ شوهد والـ لا بأس ويطمئنون ويبقون على عهد نجاحهم بـ شوهدهم ولابأسهم، ويفتنون... العار كل العار في العقول التي تفترق عن نهار فكرة الحب دون الالتقاء بها.. فتغرق في لعنات العتمات إلى أن تهلك.. عقول النور تحضر وتغيب بحب عادي أو وطني.. أو تهيئ البيئة لخياطة قميص عيش متين بإبر الواقع المؤلم أو الحالم أو الشقي... لكنها وهي تخيط القميص أو الحكاية تتشجع وتخيط عاطفة حلوة أو رغبة بالحياة الكريمة.. وبذلك يتحسن أمر البقاء كما حصل لجارة شداد خياطة قمصان الأيام المتعبة بإبر الأحلام.. وكما حصل لـ اسماعيل الذي بنى فوق أساسات العواطف جدران حب وشبابيك ضوء وحين تعب أكمل بعده الجيران البعيدون والقريبون إلى أن طالت بناية النور...
في أعلى البلدة بناية وبساتين وأناس يذهبون في دروب الجوع والشبع والحنطة والرغيف والزيت ولا ينسون عند كل ضائقة أن يلتفتوا إلى الأساسات.