التي تدفع بها واشنطن وحلفاؤها في عواصم الغرب وإسرائيل لتعويض خسارتهم في الجولة الماضية التي حسمت لصالح موسكو.
فقبل أسبوع من تنصيب الرئيس الأميركي أوباما ودخوله البيت الأبيض كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق بوش تعد لمثل هذه الجولة وبشكل سريع وتمثل ذلك في أن هذه الإدارة عمدت إلى عقد اجتماع عاجل بين الوزيرة رايس في التاسع من كانون الثاني الماضي ونظيرها الجورجي (غريغول فاشادزه) وهو الاجتماع الذي شهد آنذاك التوقيع على ما اطلق عليه بميثاق الشراكة الاستراتيجية الأميركية الجورجية، وهو يتضمن بطبيعة الحال بوادر خطيرة جداً لإعادة عدم الاستقرار وبالتالي الانفجار مرة أخرى في منطقة القوقاز بشكل عام وبين روسيا وجورجيا بشكل خاص، والغريب هذه المرة أن بصمات الإسرائيليين على ذاك الاتفاق كانت واضحة للغاية حيث تم التأكيد في بنوده على أن مفهوم الأمن الجورجي هو امتداد ضروري للأمن الأميركي، وهما متلازمان وعلى هذا لا بد من خطوات تنسيقية بين الجانبين في مجال الأمن والدفاع.
لقد سعت إدارة الرئيس الأميركي السابق بوش كعادتها إلى زرع الألغام في أكثرية مناطق العالم، وتلك الإدارة سعت بالتحديد لعقد ذلك الاتفاق مع جورجيا قبل قدوم الإدارة الأميركية الجديدة وتدخل الرئيس بوش شخصياً وعلى وجه السرعة لدى البنتاغون ووزارة الخارجية لإعداد مسودات ذلك الاتفاق بما يتيح له استعجال إعطاء موافقته النهائية عليه، وكان تبرير بوش على هذه السرعة قبل قدوم إدارة أوباما تخوفه من احتمالات استغلال روسيا للفراغ الأمني العسكري الاستراتيجي الذي نشأ في منطقة القوقاز بعد هزيمة جورجيا أمام روسيا وتخوفاً من هذا لا بد من توقيع هذه الاتفاقية التشاركية كي يردع روسيا عن استهداف جورجيا مرة أخرى في المستقبل، وبالتالي لإعادة خلط الأوراق من جديد في منطقة القوقاز.
رائحة الأصابع الإسرائيلية كما كانت تفوح في المواجهة السابقة بين روسيا وجورجيا على خلفية ما كشفته الوقائع من تواجد إسرائيلي عسكري وأمني في الأراضي الجورجية هي الرائحة التي تفوح مرة أخرى اليوم في الساحة الجورجية وكأنها اللاعب الرئيسي في تحديد مسارات المستقبل الجورجي ودفعه نحو مواجهة جديدة مع موسكو ويتمثل ذلك في عودة الدعم الإسرائيلي من عسكري وأمني لجورجيا إذ إن الإسرائيليين يبررون ذلك بأن العلاقات الإسرائيلية - الجورجية تمثل جزءاً لا يتجزأ من مخطط تأمين الحدود الشمالية لإسرائيل التي تعتبر وفقاً للرؤية الاسرائيلية أهم المكونات المذهبية للحفاظ على أمن إسرائيل الخاصة بمرحلة ما بعد الحرب الباردة وصعود قوة التفرد الأميركي بالعالم.
كما إن إسرائيل هي التي حثت إدارة الرئيس الأميركي السابقة على ضرورة ألا تتراجع واشنطن عن منطقة القوقاز مهما كلف الأمر ذلك، وبأنه على واشنطن أيضاً أن تدعم نظام الرئيس الجورجي ميخائيل ساكا شفيلي كي يبقى في السلطة بعد أن تغلب نوعاً ما على معارضيه الذين طالبوا بإقصائه بسبب هزيمته العسكرية أمام موسكو ولكن رغم هذه الضغوط الإسرائيلية التي مورست على إدارة بوش، إلا أن إسرائيل واصلت بدورها منفردة بإعادة تقديم الدعم العسكري للقوات الجورجية وتم ذلك بإشراف خبراء إسرائيليين توجهوا على جناح السرعة إلى جورجيا كي يعيدوا تقييمهم للقدرات المطلوبة لتجهيز الجيش الجورجي من جديد بما يلزمه من أسلحة وعتاد.
إن التحرك الإسرائيلي والأميركي في أواخر عهد إدارة الرئيس بوش وكذلك مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد أوباما لم ينقطع ولم يتوقف في منطقة القوقاز وربطها بتوازنات الأوضاع الإقليمية الممتدة إلى البحر الأسود وشرق المتوسط الفائقة الأهمية للأمن الإسرائيلي وعلى خلفية ذلك جاء تنشيط التعاون الأميركي - الإسرائيلي من جديد باتجاه تسخين الأوضاع مرة أخرى في جورجيا تحسباً لأي مواجهة محتملة، ليس فقط بين جورجيا وروسيا بل ولاحتمالات تدهور العلاقات الأميركية الإسرائيلية مع تركيا مع استمرار وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة بتركيا ومواقفه الأخيرة والمشرفة من العدوان الإسرائيلي على غزة والتي أزعجت بالطبع كلاً من واشنطن وتل أبيب، واللتان تريدان من خلال البوابة الجورجية هذه المرة الضغط على أنقرة تحديداً بحيث تكون أمام خيارين لا ثالث لهما التعاون الأقصى مع محور واشنطن - تل أبيب أو المواجهة معهما، إضافة إلى قيام الثنائي الأميركي - الإسرائيلي بتشديد قبضتهما على منطقة القوقاز بما فيها السيطرة المشتركة على خطوط أنابيب نقل الغاز الروسية القادمة من منطقة بحر قزوين ومنطقة آسيا الوسطى.
إن عودة التعاون الأمني والعسكري بين النظام الجورجي مع محور واشنطن - إسرائيل عودة لا رجعة عنها، إذ إن كل الأمور تشير إلى أن هذا المحور يريد من ذلك النظام أن ينوب عنهما بأن يكون شرطي البحر الأسود في وجه موسكو وبالتالي إعادة السيطرة الأميركية - الإسرائيلية على النحو المراد منها لمنطقة القوقاز لإعادة سياسة التطويق والالتفاف على المصالح الروسية الإقليمية والأمنية وهي بالتأكيد سياسة لن يكتب لها النجاح لأن موسكو تعي حقائق الأمور وما كشفته الجولة الماضية مع جورجيا يجعلها تكون أكثر صحوة واستنفاراً لما يحضر لها.