تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بين الرقيبين الداخلي والخارجي..( الشرطي الداخلي) موجود في كل منا...الحذف.. فعل جمالي أم مصادرة?

شؤون ثقا فية
الأحد 9/9/2007
سوزان ابراهيم

في لحظات الابداع يختلط الوعي باللاوعي ما يمنع للتدفق الفني غزارة قد تكون فائضة عن السياق في هذه الحالة لا بد للمبدع

ان يمتلك قدرا كافيا من الشجاعة والمرونة ليحذف ما فاض عن مجرى العميلة الابداعية قد تنطوي هذه الخطوة على تضحية مؤلمة بما يراه المبدع فكرة جميلة او صورة رائعة او زاوية رؤية مغايرة لكنها في النهاية لا تنسجم مع العمل الفني وهنا يغدو الحذف فعلاً تجميلياً راقياً.. لكن ..ماذا لو مارس شخص ما او سلطة ما خارجة تماما عن الفعل الفني الابداعي ذلك الحذف ولأغراض غالبا ما تكون بعيدة كل البعد عن النظرة الجمالية والفنية فاذا بالحذف يتحول الى مقص في يد شرطي تزعق صفارته المذعورة في اعماقها ان توقف..‏

اذا متى يكون الحذف فعلاً فنيا جماليا يزيد ألق النص او اللوحة او غير ذلك من المنتج الفني الابداعي ومتى يتحول الى مقص في يد الرقيب يمارس به سلطة الغاء او مصادرة? ومتى يكون ضرورة فيما يلي حديث بعض الادباء والفنانين للوقوف على آرائهم بمسألة الحذف.‏

داخل قواعد‏

الملء والإنشاء‏

الفنان التشكيلي بسام جبيلي:‏

عندما ينضج الملء يخلي مكانه للفراغ انها عملية تناوب بين الوجود والعدم , الايجاب والنفي, لكن قواعد الحذف والالغاء لا يمكن تسويغها او فهمها الا داخل قواعد الملء والانشاء الفنان هو من اكتشف مع حالات الترميز وتحديد الاطر القدرة على التصرف على هواه بكل ما تمده الحواس ويأتيه من الطبيعة الخام فوضع نفسه خارج اكراهات الحضور المادي للاشياء واستطاع عن طريق العلامة والرمز التخلص من أسر الطبيعة ودخول عالم المفاهيم التي لا تأخذ من العالم المادي سوى الشامل والمجرد والقابل للتعميم.‏

عندما يتوافق فكر الفنان مع مخزون تجاربه السابقة وبراعته النقدية تظهر حالة من السيالة الشعورية والتدفق الفني والسرعة التي يستدعي بها المبدع اكبر عدد من الالفاظ او الافكا راو التخيلات تكون اكبر وهنا يكمن الجانب الملتبس لعملية الابداع وان لم يتسلح المبدع بالمرونة الكافية لتعديل وجهة نظره فإنه سيصل الى طريق مسدود وتتمثل هذه المرونة بالقدرة على الحذف والتضحية بأفكار لا تخدم ولا تنسجم مع العمل الفني والفنان يدرك قبل غيره ان جمال الكل ليس مجرد مجموع جمال الاجزاء.‏

إن أي عملية حذف تطال الشكل يوازيها عملية اقصاء تطال المضمون .‏

إن المجتمع يتسلل الى مفاهيمنا شئنا ام ابينا فيستوطنها ويحولها الى مستودع لأحكامه وتصنيفاته اذ ان هناك ذاكرة لا شعورية هي ذاكرة الانطباعات التي لم نصنفها شعوريا وقت تلقينا لها وارثنا الحضاري هو الذي يدفعنا لاختيار دلالات معينة يتحكم العرق والعقد الاجتماعي بعادات الربط فيما بينها ان الجمالية العربية تخاف الفراغ وتتهرب من الرمز وتسعى الى التكوين ا لمغلق: حينما يتعلق الامر بالمبدع فإن الرقيب الداخلي وعوامل الكبت تتحكم في خياراته وتحول دون التكافؤ بين ما ينتجه وما يشعر به اما حين تتحول الرقابة الى مؤسسة تحكم على عمل المبدع من الخارج فإن الحذف هنا يبدو جائرا ومرفوضا ليس باعتباره حذفا او الغاء بل في كونه مصادرة وانتقاصا لحرية المبدع وتشكيكا في مواطنته .‏

فعل قبيح‏

الشاعرة زليخة ابو ريشة: هناك حذف قائم على شرطي داخلي موجود فينا او وجد فينا بسبب الشرطي الخارجي الذي هو السلطة او سلطة الرقيب والرقابة وهذا اسوأ انواع الرقابة اي ان الخوف تسلل الى داخل المبدع او المبدعة وصار هناك تفكير اثناء العملية الابداعية بما ليس له علاقة بالابداع وليس شرطا للفن : هناك رقيب آخر داخل الكاتب او الكاتبة واعني الرقيب الفني الذي يحاسب على الترهل وعلى الخطأ وعلى ما يضعف الفن وما هو ضد التكثيف وهذا فعل عظيم ومطلوب لكل ابداع راق اما الرقيب الخارجي فقبح الله وجهه اينما كان ..‏

نقيضان شتان بينهما‏

القاصة وفاء خرما: الاجابة يتضمنها السؤال او هو يوحي بها على الاقل , فالحذف حذفان وشتان بينهما بل هما النقيضان فبينما يسعى الحذف في الحالة الاولى الى استكمال الفن ومحاولة الوصول الى الجمالي في العمل الادبي, يسعى الحذف الآخر الى قتل ذلك الفن . اذكر قولاً قرأته حديثاً لكاتب لم اعد اذكر اسمه مفاده ان الرواية العربية لن تزدهر ما لم تعرف المجتمعات العربية الحرية الحرية فضاء ساحر يصنع كل ابداعي وجميل.‏

المؤسي في الامر اننا لم نعد بحاجة الى مقص الرقيب فقد زرعنا المقصات في رؤوسنا نشهرها ونحن نكتب عند ادنى اقتراب لشبح من اشباح التابوهات الثلاثة لأننا ان لم نفعل حكمنا على عملنا بالدفن حيا بتنا نقتل الجنين قبل ان يقتلوه وليدا اما متى يكون الحذف ضروريا فالكاتب وحده هوالذي يقرر هذا الحذف لغاية تحقيق فنية العمل وجماليته كما اسلفت يشاركه في احقية هذا الحذف رقيب آخر هو الناقد الكفؤ الذي يمكن ان يكون صديقا فيحذف كما الكاتب لأمر يخص فنية العمل الادبي ولا يخص شيئا آخر على الاطلاق .‏

عقلية المكتوبجي‏

القاص خطيب بدلة: يدخل الحذف في معنى التجويد للعمل, ولعلمك فقد كان بعض الشعراء في الجاهلية يكتبون قصيدة واحدة في العام ويسمونها( الحولية ) لأن الشاعر بعد ان يبدع قصيدته بصيغتها الاولى يمضي عاما كاملا حولا وهو يحذف ويبدل ويستعرض صياغته الاخيرة للنص ثم يعود الى تنقيحه.. وهكذا ..وهؤلاء اطلقت عليهم صفة (عبيد الشعر).‏

في اول لقاء لي مع الكاتب زكريا تامر, وكان يسهر معنا الاستاذ وليد اخلاصي , قال الاستاذ وليد ان زكريا تامر كان يعيد كتابة نصه القصصي خمسين مرة, وزكريا تامر بدو ره اكد على صحة هذه المعلومة.‏

من تجربتي الشخصية اقول لك انني اكتب في بعض الاحيان قصة طويلة جداً, وهي طويلة بطبيعتها وليست مطولة بالحشو والكلام الفارغ, ولكنني اضطر الى اختصارها احيانا بحذف بعض التفاصيل والمقاطع منها لأجل ان اقرأها في امسية قصصية لئلا اطيل على المستمعين. واكتشف من بعد ان الحذف لم يكن فعلا جماليا لا سيما وان قصصي في معظمها تقوم على التفاصيل الصغيرة.‏

ذات مرة سئلت عن قضية الطول فيا لنص القصصي فقلت : ان طول المرأة يضفي عليه جمالا قالت عنه العامة انه ثلثا الجمال, ولكن المرأة التي تتطاول بالكعب العالي لا تستطيع ان تحقق ذلك الجمال الطبيعي.‏

الحذف الرقابي فعل ديكتاتوري تعسفي وصائي يحمل من يقوم به عقلية رثة تشبه عقلية رقيب الصحفي العثماني الذي كان يدعى المكتوبجي, وانا اعرف اديبا كان يشكو من حذف الرقباء لبعض نصوصه او مقاطع منها فلما تسلم ( حضرته) موقع المسؤولية اصبح الحذف ابرز هواياته,وشرع يمارسه على نصوص زملائه التي لا تحتوي على اي شيء يقترب من الخطوط الحمر, بل من باب التلذذ السادي.‏

واضيف : ان الصحف التي اتعامل معها لا تحذف اي مقطع من كتاباتي, لعلني اصبحت اعرف- بالخبرة - كيف يمكن للكاتب ان يمشي بين النقاط , وحينما يجدون ان نشر احدى مقالاتي سيسبب لهم احراجا يتصلون بي ويعتذرون عن نشر المقالة مع توضيح الظروف التي تحيط المسألة وانا غالبا اتفهم ظروفهم, ولكنني لا اجد مشكلة في نشر المادة نفسها على أحد المواقع الالكترونية.‏

بالمناسبة الانترنت والمواقع الالكترونية وجهت ضربة ما حقة للعقلية المكتوبجية, وجعلت الكاتب المعاصر يتمتع بقدر كبير من الحرية.‏

تحت يافطة التهذيب . يعقمونه !!‏

لعل من اخطر انواع الحذف ما تتعرض له الاعمال الادبية التراثية وابرزها الف ليلة وليلة وغيرها كثير من كتب تمتع مبدعوها رغم تخلف ذلك الزمن بمعايير حضارة العولمة بحرية اكبر على التعبير وبصدق وجرأة لم يحتمل بعض المعاصرين شفافيتها فامتدت ايديهم بكحول فاسد لتعقيم امهات الكتب وتهذيبها وحذف كل ما تجده عقولهم المنغلقة المزيفة ناشزا او تفوح منه رائحة حرية التعبير, مستعملين مع تلك الحكايات والابداعات سلطة الرجل الشرقي حين يطلب من الزوجة الالتزام ببيت الطاعة وغدا ( تحقيق )كتاب ما مشروع الغاء ومصادرة بامتياز..‏

يكفينا ما يفعله الشرطي الساهر في عقولنا والذي رغم كل المحاولات لتنويمه او تخديره بقينا رهن اشارته ودعوا التراث يشهد على القدر الوافر من الحرية الذي تمتع به اجدادنا ذات يوم وهذه دعوة لجميع المهتمين والمعنيين لانقاذ تراثنا من حملة التطهير التي اعلنت ضده..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية