ولأن هذا الناقد قرأ ذاكرتي الاجتماعية والسياسية في الرواية التي تقرر ذات يوم أن تكون مسلسلاً تلفزيونياً، وحصلت على موافقة لجنة القراءة ولكن دوائر الروتين في التلفزيون قبل سنوات راحت تتباطأ لأسباب مؤسفة جعلتني أتخلى عن حقي في المطالبة بتحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، فقد كان يؤمن أن الكتابة الصادقة هي بمثابة جسر رابط، خيط ساحر تنسجه إبرة الذاكرة.
لم تستطع السنوات الطوال أن تمحو من ذاكرتي ووجداني تلك المدرسة الابتدائية المتواضعة ببنائها والعظيمة بمعلميها وتعليمها التي تعلمت فيها حروف الكلمات وحروف الحياة، لا أزال أذكر كل حرف قرأته وكل كلمة تعلمتها، كل شيء وكأنه البارحة، فصول المدرسة. السبورة.. المقاعد، وجوه الطلاب، الخربشات على الجدران.. ملامح المعلم، نبرة صوته بقسوتها ومرحها وعذوبتها، وأكثر مايستوقفني ذاك المعلم الطيب الحنون الذي كان يردد دائماً أمامنا «هذه الأرض هي نحن منها جئنا وإليها سنعود، ومنها سيكون أولادنا، علينا ألا نتركها للغزاة، ولا للظالمين في المجتمع، ندافع عنها بدمنا، كان في كل مناسبة يحدثنا بمهابة عن الوطن والثوار والشهداء والصراع العربي الإسرائيلي».. كان يبدو وهو يتحدث عن الوطن، وكأنه يتحدث عن حبيبة ضفرت جدائلها بضوء الفجر منتظرة سطوع الشمس من خلف جبال سحرية.
كان في حديثه عن التراب.. الماء.. الناس.. والثوار.. والهواء... وسنابل القمح، حتى عصافير الدوري وهي تتقافز على الجدران والمزاريب وأشجار الزنزلخت التي تظلل الطريق إلى المدرسة، مهابة، فنزداد تعلقاً به، وهذا التعلق كان يحضنا على الاجتهاد وعلى الربط بين ماهو وطني وأخلاقي وديني وثقافي، كان يقول: «كل الأهداف الكبرى التي نناضل من أجلها تشكل بنية الحياة للنهوض بأحلامنا وتطلعاتنا المشروعة، وبأهداف الوطن الكبرى، فالنضال حاجة حياة لبناء المستقبل، أذكر.. في درس التعبير، قال لنا: «لنجرب الكتابة عن الوطن».. بقيت يومين أفكر بما سأكتب.. تخيلت الوطن امرأة حبلى، تحمل غمراً من القمح في درب وعر تحت وهج الشمس، وعندما تعبت جلست على حافة ساقية ماء ومدت قدميها اللتين حفر شقاء الزمن وخشونة الطريق، ورؤوس الشوك فيهما خطوطه، قرأت ماكتبته أمام الفصل، سألني المعلم: «لماذا تخيلت الوطن امرأة حبلى ؟» لم تكن لدي إجابة، كنت أجهل الأسباب، ربما لأن أمي كانت يومها حاملاً بأختي التي جاءت فيما بعد، ابتسم، ظننت أنه يسخر من صمتي وارتباكي، قال: «الوطن ولاّد، الأوطان العقيمة انتهت في التاريخ، منذ ذاك الوقت وأنا أنظر إلى المدرسة مصنع «الانتماء للوطن» وكلما نجحت المدرسة في مهمتها كان مستقبل الوطن أكثر إشراقاً، أسأل اليوم وأنا أتأمل مدارسنا: «هل مازال المعلم هو المعلم؟ والمدرسة هي المدرسة؟!. والتلميذ هو التلميذ؟!.. والأهل هم الأهل؟.. والسلطة التربوية هي السلطة التربوية؟..والمجتمع هو المجتمع؟! بتنا نمتلك الآن في كل قرانا ومدننا مدارس أكثر فخامة من مدارس أيام زمان، ومجتمعاً أكثر قوة اقتصادية، ولدينا أناس أكثر سعة في المال والجاه، ومعلم أكثر أناقة في المأكل والملبس، وتلميذ له ما يحتاجه، ولكن السؤال المهم: هل نجحت المدرسة الحالية وحققت أهداف وجودها كالمدرسة في الماضي؟ وهل المعلم الآن مازال يحتفظ بنقاء معلم أيام زمان الأخلاقي والوطني والسياسي؟! بصراحة.. إننا نفتقر في كل ذلك «في المدرسة وفي المعلم و في التلميذ، وفي الأهل، وفي المجتمع» إلى مضمون أيام زمان، كان كل شيء يبدو وكأنه ساحة للنضال.