ومراكز البحوث الاستراتيجية المعنية ببحوث الصراع إلى وضع تصورات مستقبلية للصراع والأمن في العقدين القادمين وذلك على أساس أن التغيرات الراهنة في مناخ الأمن العالمي ستكشف عن كامل تجلياتها ليس الآن ولكن بعد حين.
ولا شك أن سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 ونهاية الحرب الباردة وما أحدثته هذه الوقائع الدرامية من آثار بالغة العمق في بنية المجتمع العالمي بجوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية فتح باب الأمل لصياغة نظام دولي جديد. وهذا النظام الجديد كما أكد المبشرون به سيكون متسماً بسيادة علاقات دولية سلمية بين الدول. غير أن الحدث العالمي الأهم والذي أدى إلى تهديد خطير للأمن العالمي هو ما تبع الأحداث (الإرهابية) التي وقعت ضد الولايات المتحدة في 11 أيلول .2001
ذلك أن الحرب الأميركية على (الإرهاب) أظهرت أن النظام الدولي يمر بأزمة عميقة.
ومن ناحية أخرى لم يطبق وعد سيادة القانون بغير تمييز بين الدول, وأبرز دليل على ذلك أن إسرائيل التي تمارس الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني, وتبني الجدار العازل ضد الشرعية الدولية, رفضت تطبيق حكم محكمة العدل الدولية بإزالة الجدار.
وإذا كان الاقتصاد الحر تحت مظلة العولمة والتي هي أبرز ظواهر القرن الحادي والعشرين قد ارتفعت راياته في كل مكان, إلا أن آثاره الإيجابية وخصوصاً في تحقيق التنمية وعدالة توزيع الدخول,ومنع تهميش الطبقات الفقيرة, والوقوف ضد إقصاء الدول النامية, كل ذلك لم يثبت حتى الآن, بل إن الفساد يعم عديداً من الدول النامية وبعض الدول المتقدمة ذاتها. بالإضافة إلى اتساع دوائر الفقر, والفشل الذريع في إشباع الحاجات الأساسية لعديد من شعوب العالم ليس فقط بسبب خيبة نخبها السياسية الحاكمة, ولكن بسبب قصور سياسات الاقتصاد الحر, وتصميمها لكي تزيد أرباح الشركات متعددة الجنسيات والتي أصبحت أقوى من الدول ذاتها. ويبقى أخيراً مجال الحوار بين الثقافات. لنجد أن الصراع الثقافي قد اشتد, وخصوصاً في ظل الحملة الأميركية الشرسة ضد الإسلام والمسلمين.
قمة هذه الدراسات الاستراتيجية التقرير الذي أصدرته مؤسسة (راند) الأميركية الشهيرة. والذي يفضح بجلاء في مقدمته عن أن الأوراق البحثية المتعددة التي يضمها التقرير تعالج اتجاهات الأمن البازغة التي ستشكل وضع الخليج العربي في السنوات القادمة. والموضوعات التي تمت مناقشتها والتي ستؤثر على الأمن الإقليمي تتضمن مستقبل الإصلاح الاقتصادي والسياسي والعلاقات المدنية والعسكرية وتغيرات النظم السياسية, وأمن الطاقة, وذيوع تكنولوجيا المعلومات الحديثة, وانتشار أسلحة التدمير الشامل.
التقرير يرصد منذ البداية ضروب التهديد المختلفة للأمن في الشرق الأوسط منذ نهاية حرب الخليج عام 1991 وذلك لأن التوترات بين الدول هددت المنطقة نتيجة عدم الاستقرار. وفي بعض الأحيان تصاعدت هذه التوترات لتتحول إلى عمليات حربية مفتوحة, مثيرة بذلك الاضطراب في الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وخالقة بالتالي لأزمات إنسانية عنيفة. واليوم فإن التهديد المتبادل بين الدول يعبر عن نفسه بطريقة مستحدثة وخطيرة في نفس الوقت. ولعل انهيار عملية السلام العربية- الإسرائيلية ومائلاً ذلك من تصاعد أحداث العنف قد ألهب المشاعر المعادية للولايات المتحدة الأميركية في العالم العربي.
كما أن انتشار أسلحة الدمار الشامل قد أدى إلى ارتفاع احتمالات الصراع بين الدول. أما تصدير (الإرهاب) من الشرق الأوسط إلى العالم فقد أدى إلى العزلة السياسية والاقتصادية للمنطقة, ,يلفت التقرير بذكاء إلى التطورات الداخلية في بلدان المنطقة منذ عقد من الزمان, والتي قد تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار. ومن التطورات التي يشير إليها التقرير زيادة معدلات تعليم النساء ما سيهدد نظام المكانات الاجتماعية التقليدية. كما أن تكنولوجيات الاتصال المتقدمة قد انتشرت ما أتاح الفرصة للجماهير أن تتعرض لوجهات نظر متعددة بشأن القضايا السياسية والاقتصادية. وإذا كانت هذه التطورات كما يرى التقرير قد تكون لها آثار إيجابية على المدى الطويل فيما يتعلق بانتشار موجات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان, فإنها على المدى القصير قد تؤدي إلى اضطرابات سياسية واقتصادية وتزيد احتمالات الصراع, ما قد يؤدي إلى تغيرات لا يمكن التنبؤ بها في سياسات الدول.
وأياً كان الأمر, فإن تقرير مؤسسة (راند) أوجز في البداية النتائج الأساسية للبحوث المتعددة التي يتضمنها النتيجة الأولى أن عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط يمكن أن تكون له آثار خطيرة بالنسبة لأمن الولايات المتحدة الأميركية, ويشير إلى أنه منذ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 فإن الشرق الأوسط لعب دوراً كبيراً في سياسة الولايات المتحدة. ذلك أنها تعتمد على شركائها في المنطقة لمحاربة (الإرهاب) وتحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل. وفقدان الولايات المتحدة أحد الشركاء الرئيسيين نتيجة لتغيرات مفاجئة في النظم السياسية, أو بسبب تصاعد الاتجاهات المعادية لأميركا قد يؤثر على قدرة الولايات المتحدة في مكافحة (الإرهاب) بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لها مصلحة في إبقاء أسعار الطاقة مستقرة, وضمان إمداداتها. ونظراً إلى أن الغرب يعتمد أساساً على نفط الشرق الأوسط فإن عدم الاستقرار السياسي فيه يمكن أن يضر ضرراً بليغاً بالاقتصادات حول العالم.
وفي محاولة للتنبؤ بالاتجاهات البازغة في العقود القادمة توصل التقرير إلى عدد من النتائج المهمة نوجزها كالآتي:
1- تصاعد الاتجاهات الليبرالية ببطء في حين أن التقدم الديمقراطي سيكون محدداً.
2- الاقتصادات المنهارة في المنطقة من المحتمل أن تزيد من عدم الرضا الشعبي عن الحكومات.
3- تغير الأنماط في سوق الطاقة سيقوي من علاقات الشرق الأوسط بآسيا.
4- دول الشرق الأوسط مستمرة في تنمية واكتساب أسلحة الدمار الشامل.
ونسي التقرير أن المواطنين العاديين يشهدون آثار هذه السياسة كل يوم على شاشات التلفزيون, والتي تتمثل في الاعتداءات الهمجية اليومية على الشعب العراقي وفي الدعم غير المحدود للخطة الإسرائيلية في الإبادة المنهجية للشعب الفلسطيني.