تناولت الندوة الشهرية الثامنة «سوريات صنعن المجد» التي أقيمت في مكتبة الأسد حياة وشعر الشاعرة الراحلة عزيزة هارون، والندوة التي تنظمها وزارة الثقافة تناولت ثلاثة محاور وهي: أصداء الحياة الاجتماعية في شعر عزيزة هارون، والغزل في شعرها، ومن ثم المؤثرات التراثية وتجلياتها في قصائدها.
واستهل الندوة الدكتور محمد قاسم بلمحة تعريفية عن حياة الشاعرة هارون التي ولدت في مدينة اللاذقية في العام 1923 وتلقت تعليمها الابتدائي والإعدادي في مدارسها، لكن لم يتح لها أن تستكمل دراستها العليا كما كانت تتمنى، فاستمدت ثقافتها من قراءاتها الشخصية لدواوين الشعراء العرب القدماء والمعاصرين، وبدأت تنظم الشعر في سن مبكرة دون الخامسة عشرة مدفوعة بموهبتها الأصيلة وتوهج أحاسيسها.
أصداء الحياة الاجتماعية
وتحدثت الدكتورة منيرة فاعور استاذة البلاغة في جامعة دمشق عن تجارب الشاعرة الحياتية وأثرها في رؤيتها الشعرية، وهي الشاعرة التي قال عنها الأديب طه حسين «إن موهبتك الأصيلة نابعة من ذات نفسك، ولو كنت تجيدين الفرنسية لقلت إنك متأثرة بالشعراء الفرنسيين» كما حملت الكثير من الألقاب «الشاعرة المنسية، الذات الموجوعة، الملهمة الرائعة، وايقونة الأحاسيس».
وربما كان لفشل زواجاتها الثلاثة بسبب عدم الإنجاب أثره في حياتها، وكان له آلام نفسية قاسية وباتت تردد:
كفنت أحلامي بمئزر توبتي..
ورجعت للبيت القديم بتولا
أبكي على قلبي بكاء حبيبة..
وجدت حبيب فؤادها مقتولا
واستمر قلبها ينزف وعباراتها تنزف يسلبها الوجع فرحها ويغير مسار كلماتها لتغدو مغمسة بالحزن والألم، فترصد في قصائها أوجاعها وشوقها إلى أن تصبح أما، وهو وجع دام لايعرف غوره إلا من كابده.
وقد تفردت الشاعرة هارون عن بنات جيلها في أنها لم تتلق تعليما كافيا، فقد بنت نفسها بنفسها وصقلت موهبتها بما كانت تقع عليه عيناها ويدها من أمات الكتب، وأعانها في ذلك الشيخ سعيد مطرجي الذي تأثرت به في البعد الصوفي.
وقد بدأت بكتابة القصائد التقليدية الموزونة التي تحمل روح الحداثة شكلا ومضمونا، ومن ثم انتقلت إلى شعر التفعيلة فشكلت تجاربها الشعرية إحدى علامات التأسيس للحداثة العربية مع جيل الرواد والمؤسسين، وأحبت الشعر كثيرا ونذرت نفسها له ليكون رسالة إنسانية واجتماعية وسياسية يتطلبها الواقع الذي تعيشه بأفراحه وأتراحه، ومن هذه القضايا التي تناولتها «الطفولة المحرومة، الإنسان المقهور، تمجيد الشهيد، مشكلات المرأة والفقر».
ولايغيب عن نظر المطلع على شعرها ذاك البعد الإنساني في قصائدها فوجعها وجع الناس وفرحها فرح اليتيم، وعودة الغائبين، وكان الترابط الاجتماعي واضحا في شعرها فهو الذائد عن الوطن، ولايجوز لأحد أن يمتهن الأرض، لذلك كانت تصرح داعية إلى المحبة والوئام، فليس سوى الحب يجعل العمر مزدهرا.
توفيت الشاعرة ومازال شعرها يحتاج إلى جهد الباحثين لجمعه وتخليده في اللوحة الشعرية السورية الفاعلة، وتختم الدكتورة فاعور مداخلتها بمقولة للشاعرة هارون عندما سئلت عن مقياس العمر قالت: «لايقاس العمربتعاقب الليل والنهار، بل يقاس بضربات النبض ووقع القلب».
الحب والغزل..
لأن تجارب الحب والزواج المتكرر في حياتها أدت لانكسار البوح العاطفي في شعرها «وما جوهر الشعر إلا إحساس بالحياة، ومحاولة لتشكيل هذا الإحساس في لغة قادرة على أن تأخذنا من الحياة التي نعرفها ثم تعيدنا إليها».
وقد تحدثت د. فاطمة تجور استاذة البلاغة في جامعة دمشق عن الغزل والحب في شعر الشاعرة عزيزة هارون لتؤكد أن قصيدة الحب كانت تمنحها مجالا حرا في تحقيق الذات لأن الحب هو «الموضوع الذي تشغل الذات به نفسها حتى تترسب أحزانها في القاع، وحتى يبدو كل شيء جميلا وسارا في هذا الوجود».
وتشف قراءة شعرها في الحب عن نسق ثقافي أنثوي يتحرك بحياء حتى ليبدو لينا رقيقا مهموسا فيه دمج بين عالم الأنثى وعالم الطبيعة، بل تتحول الطبيعة في هذا الشعر إلى أداة فنية تتجلى فيها نفسية الشاعرة المتوارية خلف النص.
ويبدو أن خلاصها لايكون إلا بأمر واحد هو الحب، إذ كان الحب يعينها على الحياة فبه تتوسل لتغيير العالم ولبناء علاقات جديدة «فليس لجراح الحياة من بلسم كالحب».
ولغزلها معجم خاص تكثر فيه الألفاظ العاطفية الانفعالية ذات المخزون النفسي كالدموع والقلب والجروح والهجر والشوق والأرق والهم والحنين، تتدفق منه ألفاظ أنثوية خاصة «العطور، الأريج، الحقيبة، الرداء الجديد».
ويظهر تأثرها بالنزعة الرومانسية والغزل العذري القديم في العديد من القصائد وتتضح هذه النزعة في الالتجاء إلى الطبيعة وفي مشاعر الحزن الشفيف وفي التماهي مع عصفورة الروض، وهي تدرك بحدسها الطفولي حقيقة مشاعرها ومايثير غيرتها فكان خيالها أقرب إلى عالم الطفولة ببراءته وعذريته وهمسه.
وقد عكست الشاعرة مرايا الغزل، فهي العاشقة الولهى، والرجل هو المعشوق الذي يفعم روحها بالحبور والذي تسعى إليه بكل ماتستطيع حتى تبدو أسيرة حبها له، وهي في كل ذلك تجنح في لغتها إلى العذوبة والوضوح والتوهج، وتنقل ألفاظها من سياق الوصف إلى سياق الشغف.
المؤثرات التراثية وتجلياتها في شعرها
ليس حضور التراث العربي هو الملمح الأبرز في شعر عزيزة هارون كما يبين د.ثائر زين الدين مدير الهيئة العامة السورية للكتاب، بل نقع على إفادات ذكية من التراث في نصوصها، كما نعثر على تعالقات وتناصات واضحة تارة ومخفية أخرى مع نصوص التراث وشخصياته وأحداثه.
وتصنف هذه التعالقات، تعالقات مع التراث الأدبي العربي، وأخرى مع التراث التاريخي والسياسي، وأيضا مع التراث الإنساني الفني والموسيقي، مع التأكيد على أن النص الشعري هو شعر قبل أي شيء آخر، وأن شعريته هي التي تجعله شعرا..
ومن التناص الذي تلجأ إليه هارون هو مع التراث التاريخي السياسي والاجتماعي حيث تسترفد أسماء بعض الشخصيات التاريخية ليس بدافع فني أو ثقافي لكن بتأثير بواعث قومية ووطنية كشكل من أشكال تأكيد الذات القومية ومحاولة حمايتها وصيانتها من الاندثار.
ومع ذلك فالشاعرة لم تستطع أن تتجاوز موقف الهروب إلى التراث، فهي تتوقف عند مرحلة إحياء التراث وبعثه، لكنها لم تجعل منه أداة فنية لنقل رؤاها ويتضح ذلك في قصيدة خولة بنت الأزور:
ياأخت ياخولة..يافارسة القبيلة..
هيا انظري مرآتك، الجميلة..
في الأعين الفاتنة الكحيلة..
إني أراك هاهنا وهاهنا تقاتلين..
وتوقف د.زين الدين عند تحليل العديد من القصائد التي تبين استلهام الشاعرة للكثير من مفردات التراث، وخصوصا في قصيدتي «بائعة الزهور، شلال».