وخلال تصوير فيلم «العراب» عام 1971. فقد ساد موقع تصوير الفيلم ذات يوم, نوع من الفوضى التي دفعت «كوبولا» للانسحاب بهدوءٍ إلى دورة المياه, وقد شعر بالخوف عندما تناهى إلى مسامعه حديثٌ يدور بين عدد من صغار الفنِّيين. يتهكمون على عدم كفاءته ويتوقعون استبداله بمخرج يكمل تصوير الفيلم, ولابدَّ أنه تساءل في قرارة نفسه, عن السبب الذي جعله يوافق على اقتباس روايةٍ لم يجد فيها أصلاً ما يثير اهتمامه..
بعد هذه الحادثة, آثر «كوبولا» تصوير سيناريوهاتٍ من تأليفه, وتغلَّب على جميع الصعوبات, وربط بذلك اسمه بفيلم لم يبثّ حياة جديدة في سينما هوليود فحسب, بل وسيظل خالداً قي تاريخ السينما كتحفة مفنية استثنائية في روعتها»..
بداية, أوردها «سيفان ديلورم» المتخصِّص الفني ورئيس تحرير مجلة «دفاتر السينما» كمقدمةٍ لكتابهِ «فرانسيس فورد كوبولا» ودون أن يحصر اهتمامه بهذا المخرج, لمجرد تقديمهِ تحفة سينمائية واحدة وإنما, لاستمرار تألقه في أفلامٍ أخرى تصدَّرت مع غيرها شباك التذاكر خلال ازدهار السينما في السبعينيات, وبما أثبت نجاح «كوبولا» المتواصل, وإبداعه الاستثنائي كعملاقٍ من عمالقة الفن السابع, وأيضاً, بما دفع «ديلورم» لتتبُّع مهنة هذا المخرج خطوة بخطوة, وبهدف استكشاف ما يفاجئ به عشاق السينما..
الكتاب, عبارة عن فصول أولها «الشباب».. الفصل الذي بدأه «ديلورم» بمقطعٍ من إحدى المقابلات التي أجريت مع «كوبولا» والتي قال فيها عن نفسه:
«كي تفهم شخصيتي, لابدَّ أن تعرف ما كنتُ عليهِ كطفلٍ في الخامسة يملؤني الحماس والحيوية, ولاسيما ولعي بإعداد المسرحيات لأصدقائي, وحثّهم على أداء الأدوار التمثيلية فيها, وأعتقد أنني ما زلت على هذا الحال إلى الآن, ومن المؤكد أن «فرانسيس الطفل» هو أفضل صورة على الإطلاق عن «فرانسيس الحالي»..
بيدَ أن «ديلورم» تقصد تقديم هذا المقطع كبدايةٍ ينطلق منها للتعريف بـ «كوبولا» وبدءً من ولادته في مدينة «ديترويت» ونشأته وعلاقته بأسرته, ومن ثمَّ دراسته وإصابته بشللِ الأطفال الذي أقعده أسير الفراش سنة كاملة, وهكذا إلى أن خرج من عزلته التي تعلَّم خلالها الكثير, بل والتي صمم خلالها من العروض ما بشَّر بولادة المخرج السينمائي ورجل الأعمال «فرانسيس كوبولا»..
هكذا انطلق, ليمارس بعدها وخلال أشهر, معظم الأعمال السينمائية, وليصعد سلم الشهرة بطريقةٍ تختلف عن أبناءِ جيله, وهو ما دفعه لاستغلال مدخراته للبدءِ بمشروعِ فيلم «الآن أنت فتى كبير» ولم يكن يومها قد تجاوز السابعة والعشرين..
أما في الفصل الثاني من الكتاب والذي عنوانه «كوبولا.. ذروة المجد» فنرى بأن «ديلورم» يتابعه منذ إخراجه لفيلم «العراب» وصولاً إلى «القيامة الآن» .. يتابعه ليتساءل وبالرغمِ من قناعته بموهبته وطموحه وجرأته:
«كيف عرضت استوديوهات «بارامونت» تصوير فيلم «العراب» على صانع أفلام مغمور؟.. هل رأت أن اختيار مخرج مطيع وسهل الانقياد أمراً منطقياً جداً من أجل تصوير الفيلم بسرعة تتزامن مع رواج الرواية من جهة, واقتران الفيلم باسم مخرج أمريكي من أصل إيطالي, وهو ما قد يمنح المشروع ضمانة إضافية تكفل نجاحه من جهة أخرى؟.
كل هذا لم يكن ليغير شيئاً لطالما, كان السؤال الأهم الذي ألحَّ على ذهن «ديلورم»: «ما السبب الذي عزَّز طموح هذا الشاب ووسع آفاقه إلى أن تمكن من أن يرتقي بفيلم «العراب» إلى مستوى القصص الكلاسيكية العظيمة, وأن يتماشى مع روحٍ عصرِ أحداث القصة التي باتت إبداعاتها الثورية في طي النسيان, وأصبحنا بحاجة ماسة لإحيائها من جديد؟؟.
يتساءل «ديلورم» عن كل هذا, ليسرد بعدها تفاصيل ما يحكيه فيلم «العراب» وليلي ذلك باستعراض الأفلام التي أخرجها «كوبولا» و إلى أن يصل إلى فيلم «القيامة الآن» الفيلم الذي بيَّن بأن «كوبولا» لم يكن يهتم بالسياسة أبداً وإنما بالحصول على شيءٍ واقعي يستطيع إظهار ما ينطوي عليه من خيالٍ, وهو ما اعتاده في كل أفلامه, وبما علَق عليه في مهرجان كان السينمائي, قائلاً: «إن فيلمي ليس عن فيتنام, وإنما يجسِّد فيتنام نفسها»..
إنه الفيلم الذي رأى البعض أنه سيشكل كارثة في مهنة «كوبولا» السينمائية, والذي تحوَّل إلى ما يشبه تلك الدجاجة التي تضع بيضاً من الذهب, فمن دون هذه الصورة البطولية لرجلٍ تكلَّلت أفلامه بنجاحاتٍ غير مسبوقة, لا يمكن أبداً فهم المغامرات التي اكتسبتها طبيعة أعماله.
في الفصل الثالث «مرحلة النضج السينمائي» يستعرض «ديلورم» المراحل التي مرت بها مسيرة «كوبولا» بادئاً بعودته إلى أرض الوطن بعد إنجازه فيلم «القيامة الآن» ودون أن يُعطِ نفسه «استراحة محارب» لطالما كان قد فتح بيته لاستقبال السينمائيين الأوروبيين المبدعين, ممن سجلوا خلال إقامتهم لديه, بداية تعاون جعله يتولى مهمة توزيع أفلامهم في الولايات المتحدة.
لقد أسَّس مركزاً مثالياً في منزله الذي حوله إلى أستوديو للتصوير, واتَّسعت رقعة نشاطاته إلى أن أصبح لديه قاعدة في هوليود التي انطلق منها للمنافسة في دنيا «مصنع الأحلام».
إذاً.. لقد بات رجل أعمالٍ بقدرِ ما هو صانع أفلام, وكان أول ما أنتجه فيلم «واحد من القلب» وكنموذجٍ أوَّلي لعرض الابتكارات التقنية التي جعل نفسه معلماً فيها, وإلى أن كانت الكارثة وسببها, فشل هذا الفيلم وبما دفعه لبيع الأستوديو مع تراكم ديونه, واضطراره للعمل المأجور لصالح شركات عملاقة, وكل هذا مع بقاءِ أفلامهِ كلها ممهورة باسمهِ شخصياً.
ننتقل إلى «الحسِّ السليم» وهو عنوان الفصل الرابع. الفصل الذي يبدأ بفيلم «العرَّاب» والذي ينتهي بـ «صانع المطر». الفيلم الذي كان «كوبولا» قد صوَّر قبله الكثير من الأفلام, ودون استثناء ما تعرَّض منها للفشل, وهو ما دفعه للمباشرة بعملِ مشروع استثنائي عنوانه «المدينة الكبرى» المشروع الذي وبالرغم من أنه اشتغل فيه لمدة تجاوزت عشر سنوات, إلا أنه لم يتمكن من إنجازه, ما دفعه للعودة إلى تنفيذ المزيد من الأعمال المأجورة, وإلى أن وافق أخيراً على تصوير الجزء الثالث من «العراب». الفيلم الذي اعُتبر بأجزائه, حجر الأساس في مهنة «كوبولا».
بعد هذا الفيلم, لم يتوقف «كوبولا» عن تقديم المزيد من الأفلام التي كان «صانع المطر» أهمها ولكونهِ مأخوذ عن رواية لأديبٍ افتتنت آنذاك هوليود بأعماله. بعدها, يعود «كوبولا» إلى مشروعه «المدينة الكبرى» يبدأ بتنفيذه سراً وكملحمة تصرُّ على ألا تكتمل.
في نهاية الكتاب, وفي فصله الخامس والأخير «شباب متجدِّد» يغرق «كوبولا» أكثر فأكثر في مستنقع فيلم «المدينة الكبرى» ليدعهُ ويبدأ وفي وقتٍ واحد, بكتابة سيناريو فيلمين «شباب بلا شباب» و»تيترو» وكان ذلك بمثابة ولادة جديدة مهَّدت أمامه الطريقً لعودةٍ حقيقية إلى الساحة التي أغناها سينمائياً بطريقةٍ جعلت «ستيفان ديلورم» يأبى أن يُنهي كتابه عنه, إلا بموجزٍ عن حياته, وكمخرج هو الأقدم بين أبناءِ جيل الموجة السينمائية الأمريكية المعروفة باسم «مرحلة ما بعد هوليود الكلاسيكية».. بل كعملاقٍ أحيا أمجاد عصر الأستوديو من خلال ثلاثيته الشهيرة «العراب», واستكشف معاني الحرب الأمريكية في فيتنام بفيلمه «القيامة الآن», وأيضاً أنتجَ عدداً من أعظم الأعمال السينمائية ولا يزال, يقوم بإخراج الأفلام بتألقٍ إبداعيٍّ لافت..
الكتاب: فرانسيس فورد كوبولا - تأليف: ستيفان ديلورم - ترجمة: محمد علام خضر - منشورات وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما 2012