فالدعوة إلى الاستقلال أطلقها آلاف المتظاهرين في مدن القناة الثلاث بورسعيد والسويس والإسماعيلية وكانت المطالبة بالاستقلال على أشدها في بورسعيد التي شهدت أعنف وأكبر الاحتجاجات بالذكرى الثانية للثورة المصرية، في حين برهن الرئيس المصري محمد مرسي وجماعته عن استماتتهم بالسلطة واستعدادهم للقيام بأسوأ مما مارسه نظام مبارك قبل سقوطه للحفاظ على الكرسي.
فعلى مقربة من استاد بورسعيد تجمع الآلاف من أهالي المدينة وهم يهتفون بغضب وانفعال ضد الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين مطالبين باستقلال مدينتهم احتجاجا على الظلم الذي تتعرض له في وقت حلت فيه الذكرى السنوية الأولى للمجزرة التي وقعت في استاد المدينة وهو الحادث الأسوأ في تاريخ كرة القدم المصرية، ففي الأول من شباط العام الماضي قتل 74 شخصا من بينهم 72 مشجعا من تراس النادي الأهلي القاهري في مجزرة مروعة تخللت مباراة كرة قدم بين نادي المصري البورسعيدي والنادي الأهلي، وقد صدرت قبل أسبوع أحكام مبدئية بإعدام 21 متهما من أبناء بورسعيد، وفور إعلان الحكم اندلعت أعمال عنف دامية سقط خلالها أكثر من أربعين قتيلا ما زاد من غضب الأهالي الذين اعتبروا هذه الأحكام سياسية.
وعلى أثر ذلك فرض الرئيس المصري حالة الطوارئ على بورسعيد والسويس والإسماعيلية، كما استنفر الجيش المصري والقوى الأمنية ونشرت بكثافة في المدن المذكورة، لكن أبناء هذه المدن لم يبالوا بحظر التجوال الذي فرضه الرئيس متحدين قراراته، ورغم برودة الطقس والمطر الشديد خرج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع ورددوا هتافات معادية لمرسي وجماعته مثل «الشعب يريد إسقاط النظام», و»يسقط يسقط حكم المرشد» في إشارة إلى محمد بديع المرشد العام لجماعة الأخوان المسلمين التي ينتمي إليها مرسي.
وفي نفس الوقت استعادت أغلب ميادين مصر في المحافظات الأخرى وخاصة ميدان التحرير في القاهرة مشاهد وذكريات الخامس والعشرين من كانون الثاني عام 2011 احتجاجا على سياسة واستبداد مرسي وحكم جماعته المتخلفة ودستورها الرجعي الذي يقمع الحريات ويساهم بأخونة الدولة المصرية ويجعلها أقرب لإمارة إسلامية تطبق فيها فتاوى الأخوان المتطرفة دون غيرهم، في إعادة لثورة 25 يناير وفي ترجمة حقيقية لفقدان الأمل وحالة الإحباط التي أصابت الشعب المصري وقواه وأحزابه الوطنية بعد أقل من ستة أشهر على حكم مرسي وجماعته الصاعدة من قعر التاريخ والقابعة في أحضان الغرب الاستعماري لتنفيذ أجنداته وافكارها المتخلفة.
ويرى مطلعون على الشأن المصري ومتابعون له أن الظروف الحالية تشبه الظروف والأوضاع التي سبقت ثورة يناير فالثورة ضد نظام مبارك لم تقم من أجل تعديل دستور ولا من أجل طريقة انتخاب رئيس وتحديد فترة رئاسته، بل قامت من أجل تجديد مصر مجتمعا ودولة تجديدا كاملا وشاملا عبر تأسيس دولة مؤسسات ديمقراطية حديثة تنظم العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتستوعب قيم العصر.
فدور الدولة الحديثة أكبر من استخدام السلطة لإدخال المواطنين إلى الجنة وإبعادهم عن النار في الآخرة، كما يحاول الإخوان أن يفعلوا مع المجتمع المصري المتعدد والمتنوع، وإنما تقوم الدولة بتوفير الحياة الكريمة للمواطنين وتحمي أمنهم في الداخل دون تفريق وتضمن قوة الوطن وتحمي حدوده وهذا ما لم يقم به مرسي وجماعته.
والثورة التي أججها شباب مصر وآلت ثمارها إلى جماعة الاخوان لم تفرض قيمها ولم تشرع أصلا في إقامة هذه القيم، ولم تحقق الأهداف التي رفعتها طوال 18 يوما من الحشود الجماهيرية الغاضبة ذات التوجه الوطني والإنساني، فهي لم ترفع مطالب طائفية ولم تفرق بين الرجل والمرأة، لتنتهي السلطة إلى قبضة جماعة طائفية تقليدية تحد من حرية المرأة وتقمع الحريات وتحاول الهيمنة على كل مراكز السلطة.
فالشعب المصري وقواه الوطنية الحيّة تريد تغييراً حقيقياً يحقق العدالة الاجتماعية ويحفظ كرامة المصريين، وهو لم يطرح شعار «إسقاط النظام» إلا عندما استنفد هذا النظام فرص الرسوب في امتحان الوطنية والتغيير، وأثبت أنه نسخة كربونية متخلفة عن سابقه.
المشهد المصري دخل في الأيام القليلة الماضية منعطفا خطيرا يهدد وحدة مصر واستقرارها وهو مرشح للدخول فيما هو أكثر تعقيدا وتأزما إذا ما أصرّ مرسي على تعنته ومجافاة الواقع الشعبي، وهو مشهد مرشح فوق العادة للانفجار لأن الشعب المصري الذي ضحى بالكثير من أجل التغيير لن يقبل بسرقة ثورته وتسليم مفاتيحها للغرب الاستعماري وأدواته الرجعية في المنطقة، وهو بلا شك سيقول كلمته وينفذ إرادته مهما طال الزمن.