والسبب في ذلك لا يعود إلى أن الإدارة الأميركية قد حاولت كعادتها استخدام تقريرها السنوي للتشهير بأعدائها فحسب, بل لأن شهادة الإدارة الأميركية في هذا العام وأكثر من أي وقت مضى تبدو شهادة غير مقبولة, فالولايات المتحدة وبكل بساطة أصبحت من أرباب السوابق الذين لا تقبل لهم شهادة أمام محكمة الحقيقة, ولا سيما عندما يتعلق الأمر بموضوع حقوق الإنسان.
إن إدارة بوش قد حققت للولايات المتحدة سبقاً تحسد عليه بوصفها أول دولة في العالم الحديث تشرعن التعذيب وتسمح به ضمن إطار قانوني رسمي, وهذا ما يعنيه عملياً استخدام بوش للفيتو الرئاسي للمرة السادسة بهدف إحباط محاولة الكونغرس الأميركي إقرار قانون يمنع وكالة الاستخبارات المركزية من استخدام أسلوب (محاكاة الإغراق), بغية انتزاع اعترافات من مشتبه بضلوعهم فيما يسمى ب (الارهاب).
لقد شهدت الطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة جورج بوش الابن ما يمكن أن نطلق عليه انهياراً جدياً فيما يتعلق بالاخلاقيات السياسية ومستوى المبادىء التي تقوم عليها فلسفة الحكم, الأمر الذي لا يتناسب البتة مع عراقة الوعي الأكاديمي الأميركي بمفاهيم حقوق الإنسان.
وفي هذا الإطار فإن أحداث الحادي عشر من أيلول لا تقدم في الحقيقة إلا تفسيراً سطحياً ظاهرياً أو جزئياً لهذا الانهيار, أما التفسير الأكثر عمقاً وموضوعية فيتعلق بالظروف التي أدت بالمجتمع السياسي الأميركي إلى إنتاج مجموعة من النخب المنحرفة التي تمكنت من الوصول إلى مواقع صنع القرار عبر مراحل متعددة سبقت أحداث أيلول بمدة طويلة.
فمجموعة المحافظين الجدد, والتي تعزى إليها المسؤولية الأكبر عن هذا الانهيار الاخلاقي والقيمي, وصلت إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة عبر ثلاث مراحل رئيسية بدأت في عهد الرئىس ليندون جونسون إبان حرب فيتنام, وتعززت خلال ولايتي رونالد ريغن الرئاسيتين, لتتبوأ موقع قمة الهرم السياسي في عهد بوش الابن.
لقد مثل هذا الصعود التدريجي للمحافظين الجدد أحد المظاهر التوفيقية التي سعت إلى حل التناقض القائم بين نزعة الهيمنة العالمية المنبثقة عن مجموعة المصالح الاقتصادية الكبرى لرأسمالية متوحشة, ومنظومة من القيم والمفاهيم الإنسانية والديمقراطية التي نشأت في ظل الحرب الأهلية الأميركية, وتعززت وترسخت مع نجاح حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن المنصرم.
وبما أنه لا يمكن عملياً الجمع بين نقيضين, فقد كان خيار المحافظين الجدد هو ممارسة الخداع الممنهج للرأي العام الأميركي خدمة لتحقيق نزعة الهيمنة الرأسمالية, وهو ما ظهر جلياً في تكشف أسطورة أسلحة الدمار الشامل العراقية, وسقوط خرافة تعاون القاعدة مع نظام صدام حسين, بشهادة تقرير رسمي صادر عن البنتاغون.
إن الخداع المنظم للرأي العام الأميركي, والذي يمثل بحد ذاته انحطاطاً جدياً في مستوى الممارسة السياسية للنخبة الحاكمة الأميركية, لا يمثل مع ذلك سلوكاً غريباً بالنسبة لمجموعة المحافظين الجدد, فالبنية الايديولوجية لهذه المجموعة التي أسس لها المؤرخ والأنثروبولوجي الألماني (كلود ليفي شتراوس (1899 -1973) )تقوم على أن أفراد هذه النخبة التي تتحكم بالشأن العام يجب أن يعملوا بكل الوسائل, حتى تلك التي تستلزم الكذب أو التي يمكن أن تثير حفيظة العامة, لخدمة أجندتهم السياسية, وبذلك فإن فكر المحافظين الجدد يمثل التجلي الأوضح للصيغة ما بعد الحداثية للمكيافلية.
إن الادارة الأميركية الحالية تفتقر بصورة صارخة للمصداقية التي تتيح لها أن تقيم أوضاع حقوق الإنسان في أي مكان من العالم, بما في ذلك أوضاع حقوق الإنسان في غوانتانامو وأبو غريب وسجون السي آي إيه السرية, أما بوش الابن (كليم الإله) والمدافع الغيور عن حقوق الإنسان فينبغي عليه أن يقرأ الإنجيل ولو مرة واحدة على سبيل الاطلاع, لعله يقرأ في صفحاته: (لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها.. يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك, وحيئنذٍ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك..).
وإلى أن تخرج الولايات المتحدة الخشبة التي زرعها المحافظون في عينها ستبقى تقاريرها حول حقوق الإنسان متعامية عن مجازر الرضع في غزة, ومتجاهلة لمئات الألوف من ضحايا الغزو الأميركي للعراق, ومتناسية للتعذيب الذي تمارسه أجهزتها السرية في سجونها المتناثرة حول أنحاء العالم.