فهذه القمة ربما تكون القمة العربية الوحيدة من بين قريناتها التي تمتعت بقدر عال من الاستقلالية العربية, سواء في تاريخ عقدها, أو في القرارات التي صدرت عنها وما سيترتب عليها من مواقف وسياسات لمرحلة ما بعد القمة.
لا نضيف شيئا جديدا عن حجم الضغوطات الأميركية التي مورست لإفشال قمة دمشق, عقابا على سياسة الممانعة التي تنتهجها سورية في مواجهة المشروع الصهيوني الأميركي على مستوى العالم العربي منذ نحو عقدين من الزمن, والناجمة عن التحولات الاستراتيجية والجيوسياسية, بعد حرب تشرين الأول ,1973 وبعد حرب الاجتياح الصهيوني للبنان ,1982 وتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993 إذ رفضت سورية الرضوخ للمحور الأميركي الإسرائيلي, فالقوى المعادية لتحرر الأمة العربية ممثلة بقوى التحالف القائم بين الولايات المتحدة الأميركية, والكيان الصهيوني, مازالت تبذل كل الجهود وكل الوسائل لفرض هيمنتها,ومنع أي علاج لأزمات المنطقة, وهذه القوى فاعلة وقادرة, وهي العدو الرئيس للأمة العربية والعالم الإسلامي الذي يبذل كل يوم جهودا غير عادية ليزيد إشكالات العرب تعقيدا وليراكم تخلفهم وتبعيتهم, والاحتلالان الاستيطاني الصهيوني والأميركي الحديث في فلسطين والعراق خير دليل على ذلك.
ولا نضيف أيضا شيئا جديدا فيما يتعلق بالخلافات العربية والخلافات الفلسطينية- الفلسطينية الناجمة عن المقاربات المتباينة في الرؤى والمواقف التي أثرت سلبا على القضية الفلسطينية, فتحولت هذه الأخيرة من قضية تحرير مركزية للأمة العربية إلى مجرد جيب صغير في قطاع غزة مطالب بفك الحصار عنه.
الإدارة الأميركية أرادت عدم انعقاد القمة العربية في دمشق, يتشهد على ذلك, وإن لم يكن من قبيل المصادفة زيارة السيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية للمنطقة مع بدء أعمال القمة, وهي التي زارت المنطقة قبل أقل من شهر, وكأنها جاءت في مهمة تخريبية لضمان تمثيل منخفض فيها, وتكريس حال الانقسام الحالي.
القيادة السورية المتسلحة بمرجعية تاريخية في النضال القومي التحرري , وبالدور الإقليمي لسورية, أصرت على كسر هذه الإرادة الأميركية بالمضي قدماً في استضافتها قمة دمشق فنجحت في استضافة القمة وأصرت على حقها المشروع في الاستضافة بوصفها مؤسسة رئيسية للعمل العربي المشترك, التي لم تتعطل إلا بعد غزو العراق للكويت, وإن عادت للانتظام في عام 2001 في قمة الأردن, قالت للجميع إن القمة العربية حق لا يجوز التضحية به لأي اعتبار كان, فكان تركيزها على البعد التضامني العربي, وانتهاجها سياسة متزنة بعيدة كل البعد عن التحدي أو الفرز بين المناصرين والمخاصمين, بل لعلها جهدت بكل طاقتها لأن تكون قمة للمصالحة العربية وإعادة وصل ما انقطع من أواصر الأخوة والتعاون مع بعض (الأشقاء الكبار) وعملت بكل طاقتها من أجل إزالة ألغام الشكوك والريب والخلافات سواء منها المستجد تحت لافتة لبنان, أو القديم المخبوء منذ زمن والذي وُجد من يعيد تحريكه لغاية في نفس.. الإدارة الأميركية.
نستطيع القول إن القمة العربية جسدت حالة من التوافق الرسمي العربي حول موضوعين رئيسيين:
الأول: الموقف من المبادرات العربية, تجاه عملية السلام وفلسطين, ولبنان.
الثاني: برنامج العلاقات العربية- العربية على ضوء هذه الحقيقة, ودمشق في إعادة ترتيب علاقات الدول العربية مع بعضها بعضا, وكذلك مع الأطراف الدولية.
فيما يتعلق بالموضوع الأول, أكد العرب في قمة دمشق تمسكهم بمبادرة السلام العربية من دون أي تعديل لإنهاء الصراع العربي - الصهيوني وإقامة السلام الشامل والعادل في المنطقة, ولكنهم شددوا على أهمية تنفيذ (إسرائيل) التزاماتها كافة في إطار المرجعيات الدولية لتحقيق السلام في المنطقة, وعلى خلو المنطقة من أسلحة الدمار الشامل, ونشر ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار ورفض كل أشكال الإرهاب والغلو والتطرف, ودعوا إلى ترسيخ التضامن العربي الفعال لاحتواء الأزمات وفض النزاعات بالطرق السلمية وفي إطار تفعيل مجلس السلم والأمن العربي, وأكد (إعلان دمشق) التمسك بالمبادرة العربية ل (مساعدة لبنان على الخروج من أزمته ودعم جهود الأمين العام لتشجيع الأطراف اللبنانية على التوافق فيما بينهم لتجاوز هذه الأزمة بما يصون أمن ووحدة واستقرار لبنان وازدهاره).
كما أكد (إعلان دمشق) ضرورة العمل لتجاوز الخلافات العربية- العربية من خلال الحوار الجاد والمتعمق وتلافي أوجه القصور في بعض جوانب العمل العربي المشترك, وفي سبيل تغليب المصالح العليا للأمة العربية على أي خلافات أو نزاعات قد تنشأ بين أي من بلداننا العربية,والتصدي بحزم وحسم لأي تدخلات خارجية تهدف إلى زيادة الخلافات العربية وتأجيجها, وذلك في إطار الالتزام بأحكام ميثاق جامعة الدول العربية والنظام الأساسي لمجلس السلم والأمن العربي, والقرارات الصادرة عن القمم.
ففي اختتام أعمال القمة ألقى الرئىس بشار الأسد كلمة أكد فيها أن سورية ستبقى في قلب العالم العربي, وتحدث خلالها عن الأجواء (الإيجابية والبناءة) التي سادت جلساتها,معتبرا أن أهم ما فيها كان الصراحة من قبل الجميع والابتعاد عن المجاملات ورغبة الجميع بتفعيل العمل العربي المشترك.
* كاتب تونسي