لكني أردت أن أنظر للقمة من زاوية مدلولاتها في الفقه السياسي العربي, حتى لا تبقى مجرد حدث نتغنى به ونصف أحواله ونحيطه بآيات التعبير ثم لا نتقدم بما يكفي نحو ما نسميه (عمق القمة) , وهكذا فالقمة في حياة البشر وسياسات البشر هي الخلاصة المتبلورة والمتطورة لأي حدث أو منعطف أو زمان سياسي.
هذا يعني أن القمة تستند إلى الواقع وتستمد أصولها ومؤشراتها السياسية من منابع الواقع, وإن كانت صعبة والمنطق يقول لا قمة دون قاعدة وحينما يحدث الفصل بين القمة والقاعدة تتهاوى القمة ذاتها لأن حاملها الشعبي وقاعدتها القومية ومداميكها الواقعية غير محسوبة وغير موجودة, ومن هنا تأتي هذه العلاقة العضوية المتحررة والمتحركة في آن ما بين واقع العرب بكل محاوره وتفاصيله ولحظة انعقاد القمة, وكما هو واضح فإن مسألة الانتماء والهوية هي التي تنجز وحدة المعادلة هنا, قمة تنطلق من مساحة الأمة وأمة لا يغيب حضورها في لحظة القمة , هذا هو الشرط في هوية القمة, وقد جرى التجاذب على هذا الشرط حصراً, بعضهم رأى ألا تكون هناك قمة في دمشق لأنها محرجة إن حدثت وانعقادها يعني في الحد الأدنى انتماء الجزء إلى الكل أو الموقع الرسمي إلى الحاضنة الشعبية, والبعض الآخر قال بصيغة التأجيل أو تغيير المكان أو حتى الإلغاء كحل سلس يعفينا من كل التأويلات والتفسيرات, وهناك بعض ثالث حاول أن يمرر فكرة المشاركة العابرة على قاعدة تحصيل الحاصل من خلال الإيحاء بأن لكل قمة زمانها ومكانها, وزمان القمة الراهنة ومكانها يستوجبان الحذر والتعامل نحو البعد الثالث كما هي العادة.
إن مهمة دمشق قائمة في أبعادها الثلاثية بعد الاحتضان, وبعد المسؤولية, وبعد القرار في الزمن الصعب واللحظة الخطيرة ولقد تسلل إلى هذه المسألة ومن خلال ثغرات مبثوثة كثير من الإساءة وكثير من التحريض على القمة بدلاً من التحريض لها, حتى كاد البعض يقع في المطب حيث ينصرف الذهن إلى مجرد الشكليات التي تطلقها عادة أخبار ملفقة وحكايات مفصلة وتنبؤات ينز منها الخراب, صار الحديث ينهمك في شكليات القمة في محاولة لصرف الأذهان عن مضمونها وبقصد تجويفها من الداخل, حينما عجزوا عن إيقاف مشوارها إلى غايته, وكان الهدف تفريغها من الداخل توخياً لإحباط كل ما سوف ينتج عنها, هناك من يريد أن يقول : إن القمة فشلت حتى ولو استحوذت على أعلى درجات العلم والحيوية في موادها الهامة ومقرراتها التي اتسعت هذه المرة للسياسة والاقتصاد والمجتمع والشباب والمرأة, التي تحركت هذه المرة عبر جدول أعمال مستفيض نحو العمل ونحو الناتج بعيداً عن الصياغات المنمقة والبيانات التوافقية المطبوعة سلفاً, ولعلي هنا أتطلع مباشرة إلى دور الإعلام بعموميته, وهو الذي يشكل اليوم منطق الهيجان فلا يكاد يترك شاردة ولا واردة إلا ويأخذها بالخبر والتحليل والموقف, هذا الهيجان الإعلامي هو ظاهرة عالمية معروفة الآن وكان بمقدور الإعلام العربي بحكم (عروبته) أن ينجو من (تسونامي) الإعلام العالمي, إن الإعلام في حضوره عبر القمة يوازي حضور الجماهير والواقع في أصالتهما وهو المادة النوعية الكفيلة بإنتاج الخلاصات وإضاءة الزوايا وإنتاج المقادير اللازمة من الوعي, والجماهير كما الواقع ترى في الإعلام نافذتها على القمة وكم هو أمر حيوي أن يشعر القادة العرب أنهم تحت المتابعة والتقويم من قبل الناس على أرض الواقع, وبهذا المعنى فإن مهمة الإعلام عبر القمة في الأصل أن تنقل المطلب الشعبي والوعي الجماهيري والحاجة الواقعية إلى القمة, وأن تضيف إلى هذا النقل لمسة من التبلور ومعنى من معاني التأثير الموقفي, وأن تمتلك قابلية التوصيل للقمة ذاتها ثم أن تغترف من واقع المداولات والخيارات في مؤسسة القمة ما هو صحيح وموضوعي, لتقول للناس هذه قمتكم وتقول للقمة هذه شعوبكم, أعلم تمام العلم أن النية خالصة والتوجيه سديد للإعلام السوري على وجه التحديد لممارسة هذا الدور المزدوج مابين القمة والناس, ولكن أحداً لن يقرر حتى هذه اللحظة إلى أية درجة استقبلنا الموقف واستوعبنا متطلباته وأحطناه بكل موجبات العقل القومي والكلام المسؤول والسمو فوق العقد بعيداً عن التأويل الفردي والموقف الشخصي وأسلوب الحجز المتعمد.