هكذا تبدأ إيزابيل الليندي سرد ذكرياتها, بعبارة لا تخلو من تأكيد في بدايتها, وتنتهي ذات العبارة بشجاعة القدرة على التشكيك. فمن جهة تمتلك الليندي ثقة التأكيد على أن كل حياة هي رواية متسلسلة, ومن جهة مقابلة تطرح الشكوك حول صحة أو دقة تلك الأحداث المروية.. فكيف تغلبت على ارتيابها ذاك?
تذكر إيزابيل أن مراسلاتها مع أمها كانت ذات أهمية بالغة في المحافظة على طزاجة الأحداث . تلك الرسائل التي كانت تجري غالباً بشكل يومي ما بين الابنة القاطنة في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا, والوالدة في تشيلي. لأن فيها نوعاً من التمرين على تعزيز الذاكرة (هذه الغمامة الضبابية التي تتلاشى فيها الذكريات, وتختلط وتتبدل, ويتبين لنا في نهاية أيامنا أننا لم نعش إلا ما يمكننا أن نتذكره).
فالكتابة ولا سيما في تفاصيل حيوات ودقائق أمور ليست بالسهولة التي يتخيلها البعض, ولذلك تعترف (أقضي عشر ساعات في اليوم مسمّرة إلى كرسي أقلب الجملة مرّة وألف مرّة كي أتمكن من رواية شيء بأشد الطرق الممكنة فعالية. أعاني في الموضوعات, أغوص بعمق في الشخصيات, أتقصى, أدرس, أصحح, أحرر, أراجع ترجمات..).
ولذلك فقد تفاجأت من إقدام زوجها (ويللي) المحامي, من قضى عمره في المحاكم, من قراره في كتابة رواية, ذلك أن (الكتابة مثل الشعوذة: لا يكفي إخراج أرنب من القبعة, بل يجب عمل ذلك بأناقة وطريقة مقنعة).
(ويللي) الذي تعرّفت به عام 1987 م, وهي في الخامسة والأربعين, تزوجته بمبادرة منها لا منه. طرحت عليه فكرة الزواج ومنحته مهلة حتى الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم التالي كي يقرر. استنفد (ويللي) الذي سيصبح زوجها الثاني, المهلة كلها, ولم يتصل إلا في آخر ربع ساعة, هذا الزواج الذي سيكون الخطوة الأولى والأساس في إعادة تشكيل وبناء ما تحب إيزابيل تسميته القبيلة أو أسرتها الكبيرة, التي تكوّنت في بادىء الأمر منها ومنه ومن ابنيها (نيكو وباولا) وأبناء زوجها. وبذلك كان لها قبيلتها الخاصة على الطريقة التشيلية في قلب الولايات المتحدة.
في سرد الليندي لمذاكرتها تخاطب من حين لآخر ابنتها (باولا) التي توفيت في عام 1992م , كما لو أنها تخبرها أحداث العائلة التي فاتتها. في عام 1995 كتبت رواية مسماة باسم (باولا), وهو كتاب خطته محاولة لنفض الحداد عنها.. (لم أكن أعرف بعد أن الحزن لا يزول بالكامل أبداً . وأنه يبقى تحت الجلد, ومن دونه ما كان لي اليوم أن أكون نفسي, ولما استطعت التعرّف على نفسي في المرآة).
تتحدث صاحبة (بيت الأرواح) عما أصابها من شهرة بسبب تحويل روايتها الأولى تلك إلى فيلم, قام بأداء أدواره أهم نجوم هوليوود, منهم ميريل ستريب وممثلها المفضل انطونيو بانديراس. إذ دعاها مخرج الفيلم بيل أوغست لحضور التصوير الذي تمَّ معظمه في أوروبا, تستذكر رفقة أولئك المشاهير.. (عندما اعتدنا على عيش تلك الحياة الملوكية بالضبط,انتهت الإجازة فعدنا إلى البيت, وتحولنا فوراً إلى الإغفال المطلق).
في الفترة التي عُرض فيها فيلم (بيت الأرواح) في تشيلي, بمنتصف تسعينيات القرن العشرين شاركت الليندي مع زوجها (ويللي) في حضور عرض الافتتاح, حيث كان لا يزال هناك الكثير من مناصري بينوشيه, وكان اليمين يتحكم بمجلس الشيوخ, والبلاد محكومة بدستور وضعه الجنرال الذي يعتمد على الحصانة باعتباره عضواً مدى الحياة في مجلس الشيوخ.
في عام 1998م جرى اعتقال بينوشيه في انكلترا متهماً باقتراف جرائم ضد الإنسانية.
بكل بساطة وصراحة تعلن إيزابيل البارعة في حمل القلم والتجمل به, أنها تخاف قبح الشيخوخة, ولذلك فقد قاومته بإجراء عملية تجميلية لشدٍّ وجهها, محاولة إبطاء تلك (السنين التي تمضي بتكتم على رؤوس أصابعها, ساخرة بصوت هامس) إيزابيل بكل أدوارها المختلفة في هذه المذكرات: الأم, الزوجة, الابنة, الحماة, الصديقة, وقبل هذه جميعها: الروائية, تقصُّ حميمية علاقاتها مع هؤلاء الذين كوّنت منهم قبيلتها التشيلية. وبذلك لن تبدو هذه المذكرات ذات خصوصية مقتصرة على شخص (إيزابيل الليندي) بمقدار ما ستكون وصفاً لمجمل علاقات وتفاصيل حيوات أفراد تلك العائلة.. هي مذكرات تكتبها من جوانب متعددة.
على سبيل المثال تصف علاقتها الطيبة مع كنتها الأولى سيليا, والتي يبدو في نهاية الأمر أنها مثلية, وما ينجم عن هذا الأمر من أزمة تعاني منها العائلة, لن تنتهي إلا بتعرّفهم على (لوري), الكنّة الجديدة, ذات الطبيعة الاستقلالية التي لا تقلُّ عن استقلالية حماتها. ما جعل إيزابيل تتنبه إلى أي نوع من الحموات هي, فتصف نفسها بأنها (حماة جهنمية سيئة).
ولن يكون هذا الاعتراف الخاص بصفاتها الشخصية هو الوحيد الصادر عن الليندي نفسها, بل سيقترن ببعض تعليقاتها الناقدة لذاتها الأدبية, كأن تذكر أحد الأخطاء الذي وقعت به عندما كتبت ثلاثية (ابنة الحظ, صورة عتيقة, بيت الأرواح).. حيث تقرُّ بروح مرحة (أن السيىء في الأمر هو أن سيفيرو دل بايي فقد إحدى ساقيه في الحرب في أحد الكتب الثلاثة, وظهر في الكتاب التالي بساقيه الاثنتين, هذا يعني أن هناك ساقاً مبتورة تطفو في أجواء الأخطاء الأدبية الكثيرة).
تعلن صاحبة هذه الحصيلة من الأيام أن رغبتها الكبرى, أن تعيش بشغف حتى يومها الأخير في الحياة, ولهذا تصور المشهد الأخير من هذا الكتاب في مكان صامت في الصحراء مع رفيق تلك الأيام (ويللي).
(حمدت الحظ الذي جعلني أتعثّر مصادفةً بالحب الذي حافظ بعد سنوات طويلة على ألقه. كنا متعانقين.. مستحمين بضوء الشموع العنبري. أحسست أني أنصهر في هذا الرجل الذي مشيت معه طريقاً طويلة ووعرة, نتعثر, نسقط, نعود للنهوض وسط مشاجرات ومصالحات, ولكن دون أن يخون أحدنا الآخر قط. حصيلة الأيام, والأحزان, والأفراح المتقاسمة, صارت قدرنا).
الكتاب: حصيلة الأيام. - الكاتبة: إيزابيل الليندي. - المترجم: صالح علماني. - الناشر: دار المدني 2008