تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أوتار...ما زلت أسمع صوتها يوقظني كل صباح

آراء
الأربعاء 2/4/2008
ياسين رفاعية

في لحظة من اللحظات قرع جرس الباب . سألت نفسي من سيزورني في هذا الليل العاصف , و هذا المطر الذي يهطل كالسيول , و يدق النوافذ و الزجاج , و الجدران , من هذا المتطفل الذي يزعجني الآن في وحشتي و عزلتي و انطوائي بعيداً بعيداً عن مخاتلة الناس , و ثرثراتهم الفارغة و استغابة بعضهم البعض , و الكذب و النفاق و المداهنة ?

ترددت في فتح الباب , ربما غريب تاه عن العنوان , ربما جار يطلب حبة ليمون أو كمشة شاي .. ربما قريب جاء من سفر بعيد .. و لكن لم يخبرني .‏

قرع الجرس ثانية و بإلحاح ...‏

تشجعت و أسرعت افتح الباب , لم أجد أحداً . صرخت : من ? لم يجبني أي صوت . أسرعت نحو المصعد فوجدت بابه عند الطابق الذي أقيم فيه . استغربت . لم اكن نائماً . لم أتخيل أن الجرس قرع مرتين ..سمعته جيداً . و هو جرس قوي الرنين .‏

عدت الى مقعدي و فتحت الكتاب الذي كنت أقرأ فيه , كان عن سقوط الحضارة , و في فصل منه عن الشاعر رامبو و حياته العجيبة , و شعره الشيطاني , و تشرده بملابسه الرثة و قذارته , كأنه من شحاذي الشوارع القديمة , و عن علاقته بالشاعر فرلين , و تشردهما معاً و شذوذهما , ثم انفصالهما عن بعضهما .. و هجر رامبو الشعر و تحول الى شخص آخر في عالم آخر , الى أن اصيبت قدمه بالسرطان و مات إثر ذلك .. حياة عجيبة مدهشة كانت تدل على شخصيته الشاذة و هو القائل هذا البيت الجميل‏

( و على شفتيك قبلة خفاقة‏

تنبض كالحيوان الصغير ..‏

أو قصيدته البوهيمية التي يقول فيها :‏

( القبضات التي تبحث في جيوبي الممزقة‏

أنطلق‏

و في سترتي من الثقوب اكثر مما فيها من القماش‏

و انا عبد بين يدي الشعر‏

تحت السماء الصافية )‏

ثم في التعبير عن ذاته الحزينة :‏

( إنني أموت و أذوب‏

بين الكآبة و القذارة‏

و الشرور التي تفيض حولي )‏

و فيما أنا مستغرق في القراءة , أحسست كأن شبحا قد عبر الصالون , و ترك لمروره هسيساً ناعماً , كان الاحساس الذي غمرني عميقاً جداً , لكنه لم يثر خوفي , فأنا في البيت الذي اعتدت حياتي فيه منذ ثلاثين عاماً , في المكان و الزمان و الليل و النهار , و لم يمّر بي مثل هذا الاحساس . لكن شعرت مرة ثانية ان ثمة من يجلس معي في الصالون . اي روح يا ترى جاءت تزورني الآن .. رامبو الشيطان , ام فرلين عشيقه و حبيبه . لا أحب هذه الانواع من الارواح . و طبيعي الروح تعرف ما إذا كانت ضيفاً مرغوباً أم لا ..‏

اذكر ذات يوم ان روح الفدائية ابتسام حرب قد زارتني في منزلي بعد أن كتبت عنها رواية ( امرأة غامضة) والتي طبعت مرات عدة . جاءت ابتسام بكل قامتها الرهيفة.... هسهست الستائر حولي .... ثم رأيتها تجلس على الكرسي المقابل .... انها هي بعنفوانها الأخاذ وجسدها المشدود . لم أكن أتخيل ....الشهداء عند ربهم أحياء يرزقون. أردت ان اقترب منها مصافحاً فأشارت بيدها أن أبقى مكاني .... ثم قالت بصوتها الذي اعرفه جيداً : نقاتل من أجل فلسطين والفلسطينيون يتقاتلون مع بعضهم . دهشت , كلام حقيقي وابن لحظته ....هاهم الفلسطينيون يدمرون قضيتهم بأيديهم . استشهدت ابتسام في جنوب لبنان , عندما اقتحمت بسيارتها المفخخة مركزاً للمخابرات الإسرائيلية ودمرته بالكامل وقتلت نحو سبعة وثلاثين جندياً إسرائيلياً ومخابراتياً . من حق ابتسام حرب أن تندم في تضحيتها بنفسها من أجل قضية يدمرها أصحابها .... قالت: تلك الكلمات السريعة وخرجت من الطرف الآخر .... فتذكرت انها ظهرت لي تماماً كمخلوق حي ....اما هذا الشبح اوهذه الروح التي اقتحمتني الآن فبت في حيرة منها.... فماذا تريد وإلى أي شيء قصدت .... وهل ماأقرأ عن الشعراء وعن رامبو المسكين ,هذا قد انعكس على الجو المحيط بي لأشعر ان ثمة من يجلس امامي دون ان يظهر ?!‏

هل أنا في حالة غيبوبة ,ان الغيبوبة تساعد على ظهور الارواح,انني هذه اللحظات انظر الى نفسي وكأنني انظر الى شخص آخر واشاهد فيلماً سينمائياً مليئاً بالمشاهد الروحانية . لقد كانت ابتسام حرب قبل لحظات تجهش بالبكاء . لقد عبرت عن افكارها التي كانت تلائم الواقع المزري الذي تعيشه ....تكلمت مع الروح الخفية وطلبت منها أن تظهر فإذا بنور يحيط بي من كل جهة , بقعة نورانية لاهي شكل انسان ولاشكل جماد ,لكن ثمة حاجزاً من ظلمة تفصلها عني , كل ذلك شدني الى تذكر ماقرأت عن احوال الروح واللحظة التي تخرج فيها من جسد الميت, قال لي شيخ : ان الروح لحظة خروجها من الجسد تظل تحوم حوله حتى الدفن , ثم تشرع في ذهابها الى الفضاءالاعلى ,وقال لي الشيخ: ان الروح تشتاق لمحبيها بين الحين والآخر فتزورهم ....ولعل الروح التي تزورني الآن روح مها التي فقدتها عندما كنا اطفالاً,حيث ماتت بالسل ولم أنس وجهها الى يومي هذا .‏

الارواح ليست شريرة , انها الحياة , انما الانسان هو الشرير . أحياناً لاتنضج الروح الا بنضوج الشخص , الروح طفلة مع جسد الطفل وكبيرة متطورة مع الرجل الكبير , ثم الروح في المحصلة ( مسرح الحكمة ) ولقد تذكرت انني قرأت هذا الاسم في لوحة مصرية للفراعنة مأخوذة من كتاب (الموت عند الفراعنة القدماء) الذين كانوا مهووسين بمشكلة الروح وقضية الموت والعالم الاخر . اذ ان هناك بعثاً بعد الموت . كل الكتب المقدسة تقول ذلك .... للحياة نهاية , انها مرحلة لحياة ابدية تأتي بعدالبعث . ( الموت هو بدء لحياة قادمة ) وتظهر اللوحة شخصاً بعد لحظة الوفاة موجوداً في مكان بين الارض والسماء .انه يقف امام ميزان ويحاكم على أفعاله التي قام بها على الارض. قائد الجلسة هو الإله ( أنوبيس) الذي يقوم بوزن قلب الشخص بميزان الحقيقة , كان القلب هوالذي يمثل وجدان الروح المتجسد لدى المصريين وليس العقل , انها لحظة مشحونة بالتوتر التي اشعر بهاالآن , اذ تذكرت انه يوجد بطرف اللوحة شكل مارد برأس تمساح مفتوح الفم ومستعد لالتهام قلب الشخص , اذا رجحت كفة افعاله السيئة على الافعال الحسنة . الرسوم امام الميزان يعني نهاية الوجود بالنسبة لروحه ( وهذا يذكرنا بطقوس حساب القبر قبل دفن الميت عند الاسلام ) فهل هذا يعني ان الانسان السيئ تحاسب روحه عنه أيضاً ? تختلف الاقوال , وان كنت أظن فيما قرأت من كتب ان الروح تظل طاهرة وان كان صاحبها فاسداً .‏

هناك بعض المعتقدات ان الارواح لاتذهب الى المكان نفسه الآراء اللاهوتية المعتدلة لم تعد تؤكد حالياً على فكرة نار جهنم بالنسبة للمذنبين, بالمقابل تنطلق فئات دينية كثيرة من نظرية تعايش نمطين من الأرواح. الطيبة والشريرة , وفقا للنظريات الفلسفية القديمة تنفصل الارواح الشريرة بعد الموت عن الجوهر الالهي عقابا لها. مثلاً, كتاب الموت لأهل التيبت الذي يرتكز عليه معتقد ديني سبق الانجيل بآلاف السنين, يصف حالة الوجود ما بين الحيوات ما يدعى بال ( باردو) بأنها زمن نمر خلاله في حالة انفصال روحي بسبب أعمالنا السيئة, اذا كان سكان الشرق يؤمنون بوجود مكان روحي خاص بالمذنبين فهل يقابل هذا ما نصفه نحن هنا على انه المطهر. ويعرف اخواننا المسيحيون ان المطهر هو أرض التكفير عن الآثام والعزلة والمعاناة. عندما تتطهر كل الآثام, يسمح لهذه الارواح بالدخول الى الجنة , اما الارواح التي ارتكبت ذنوباً كبيرة, فإنها تبقى الى الابد منفية في نار جهنم.‏

الوصول إلى روحنا هو الخطوة الاولى على السلم المؤدي إلى سلطتنا العليا , كل أساليب التواصل الذهني التي نسلكها للاتحاد بالله والروح هي منبع كل الطاقات الذكية. وعلينا, للنجاة من السوء وانقاذ أرواحنا من العذاب المنتظر ان نصلي .لأن الله يسمع اصواتنا عند الصلاة ويستجاب لها من الله.‏

شخصياً , اسمع اصوات الذين رحلوا خصوصاً الذين أحبهم, كنت قبل رحيل زوجتي الشاعرة أمل جراح, اسمع همسها صباحاً حتى استيقظ من النوم.. ومنذ رحيلها الى اليوم اسمع نفس الصوت واستيقظ بنفس الوقت. وقد اظهرت الدراسات فعلاً ان واحداً من كل عشرة اشخاص يدعي انه يسمع اصواتاً , غالباً ما تكون ذات طبيعة إيجابية ومفيدة. كم يشعر هؤلاء بالارتياح عندما يقال لهم أن هذه الاصوات الداخلية لاتمت بصلة للهذيانات التي تدل على مرض نفسي.‏

هذا الصوت الداخلي لايدعو الى القلق, بل على العكس , يمكن ان نعتبره روحاً نستطيع أن نستحضرها متى شئنا. ان القوة الداخلية التي نحصل عليها في حياتنا اليومية هي الروح الخيرة القائمة فينا, ونشعر دائماً... اننا لسنا وحيدين.‏

هل كنت غافياً وأنا اقرأ كتاباً عن رامبو وفرلين ... أم ان الخيال شطح بي إلى عوالم أخرى...‏

اذا من قرع جرس البيت بإلحاح... ومن هو الشبح الذي عبر إلى الداخل وهو جالس أمامي الآن منصتاً الى هواجس نفسي المتسارعة?!‏

***‏

شفتاك أرحم‏

الطريق اليك مليء بالغبار.. واللاوصول‏

مليء بالتوجع والدهشة‏

أيتها الهلاك الحقيقي والذعر... وشهوة الموت‏

سراب الهناء‏

وجهك قتّال ومستحيل‏

انت فاتنة السطوح والبحار‏

ملأى بالخيبة واللامبالاة‏

انت نظيفة في هذا الزمن القذر‏

انتسب اليك لانك البيت والارض‏

انت وطن وانا مواطنك الأول‏

شفتاك أرحم‏

انت اليقظة في هذا العالم العربي‏

النائم على ذلّه‏

انت الأمل وزوجتي وحبيبتي‏

شاركيني غربتي وتلويع حالي‏

خذيني إلى يدك‏

أنت سري الوحيد بك أتنفس‏

انت من صنع خيالي وأوهامي‏

انت مبدعتي ولن أخاف‏

ان لا تقرع كلماتي صدرك‏

انت قائمة في روحي وقلبي‏

في جسدي وأحلامي وأعصابي‏

أنت جزء مني وأنا جزء منك‏

إذا رحلت‏

أموت‏

تعليقات الزوار

وفاء قنجراوي  |  ياسين رفاعية | 02/04/2008 13:31

أنا أتابع مقالاتك وأحبها ,أحب أسلوبك بالحزن وكأنك تليق به لا يليق بك !! مع أني أتمنى أن تتخلى عنه وترى الدنيا جميلة ورائعة لأني متأكدة أن هذه رغبة ابنتك و زوجتك 000 أنا من اللاذقية و أخربش في بعض الأحيان ومجبة جدا بخربشاتي و معجبة أكثر بكتاباتك العظيمة اتمنى أن تراسلني على بريدي الالكتروني wafakana وساكون من المحظوظين ؟ مع ان حظي سيء و أحيانا أغريه حتى يصبح أفضل ؟!!!!!لكن من دون جدوى , ادع لي بالتوفيق 00وأن أيضا أدعو لك من كل قلبي بالفرح والسعادة التي أطلبها لي أيضا 00 الآن وداعا حتى لا أتّقّل عليك 00

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية