ولم يكن من مسؤولياتها ايضاً أن تقلب الطاولة وتذيع مفردات الشيفرة التي تكتنز اسرار كل هذا السقوط العربي الذي نخر العظام وكاد يفتك بضلوع الصدر .
ربما كان المرجو منها فقط ان تثبت الصورة في اطارها, بالوجوه البارزة فيها والفراغ الواضح فيها, فلا تترك نظام الحركة في صورة العرب حرا فيقودها الى القاع, قبل ان يأتي وقت فتح الممرات الاجبارية, نحو صعود مالا يقوى عليه احد بمفرده, ولا يمكن ان يحصد قمحه احد بمفرده .
هذا هو المأزق, ومنه يستنبط الحل, فهذه الجغرافيا الشاسعة التي تفرش جناحيها على قارتين ,وتنفتح على بحار ومحيطات وخلجان عديدة, وعليها كتلة بشرية تقترب رويداً من ثلاثمئة وخمسين مليونا, هذه الجغرافيا هي دول واعلام واناشيد وحدود تحفر في قلوبنا مساراتها, وهي بالتالي ارادات وانظمة مختلفة, ورؤى تتباين وقد تتناقض, وتحالفات ومصالح كتب عليها ان تفترق كثيرا, شرقاً, وغرباً, وكتب عليها ان توظف كل افتراق نسف ضرورات الامن القومي العربي, وكتب عليها ان تجتمع حين يتاح لها ان تجتمع, لتخفف قليلا من هامش الاختلاف, بدلا من ان تعمل على توسيع هامش الوفاق والقواسم المشتركة.
لا التحولات الكبرى في العالم استفاد العرب منها شيئاً,ولا تجارب التكتل والاتحاد من حولنا قرأنا فيها شيئاً, ولا الاستراتيجيات الكبرى التي تعبر اجواءنا ومياهنا كل يوم بأساطيل الجو والبحر, استطاعت ان توقظنا على معنى الخطر الذي صرنا في قلبه.
كل ما فهمه العرب من تحولات الكون, وتكتلاته واستراتيجياته, هو ان المشيئة الامريكية قدر لايرد , وان اتقاء الخطر الامريكي لا يكون إلا بفتح السماء لأساطيله الجوية, وفتح البحار والخلجان لأساطيله البحرية! واسترضائه بالذهب الاسود, والرساميل الكبرى, وغض الطرف عن مبضعه الذي يتقن فن الجراحة في صدورنا منذ اكثر من نصف قرن !
اما تجارب التكتل الاقتصادي في شرق آسيا, والاتحاد الاوروبي في الغرب القريب, وتحالفات دول امريكا اللاتينية, فلم نقرأ فيها شيئاً سوى ذرائع الاختلاف حتى على جنس الملائكة احياناً!
وسط هذا التجاذب وضيق الرؤية التي تتخبط بها عيون الكثيرين من العرب انعقدت قمة دمشق املاً في تثبيت الصورة في اطارها, قبل فتح المعابر الالزامية لصعود ما,حين يحسن نظام الحركة في الراهن العربي تلمس طريق الصعود: اوراق مخفية كثيرة تطايرت حول قمة دمشق, سوف يمضي زمن ليس ببعيد, حتى تنكشف, ورسائل خطية وشفوية مطولة حامت وحطت في مطارات العرب وآذانهم , تحمل مفردات الشيفرة الشيطانية التي تنذر بالخراب! وتعبىء من اعتاد ان يذعن للتعبئة دوما, كي يكمل الاصطفاف, وينتظر الامر اليومي من دواوين البيت الابيض ( ثم ماذا بعد).
القمة انفضت, والصورة ثبتت في اطارها, ونظام الحركة في واقع العرب, لابد ان يحفر بالاظافر طريقاً نحو الصعود, فعلى امتداد قارتين, وعلى سواحل بحار ومحيطات وخلجان عديدة, هناك كتلة بشرية هائلة , لا يمكن وفق كل قوانين التطور, ان تبقى صماء الى الابد ولا يمكن ان يفلت ترابها من تحت اقدامها الى الابد, ولا يمكن ان تخون ملح رغيفها الى الابد وحين تنطق فسيصحو على صوتها الكثيرون, وحين تلتصق بترابها فسينبت قمحها, وحين تتذوق ملح رغيفها فستسترجع عافيتها وتبدأ كتابة سفر جديد في التاريخ .