وأميركا تفرض نفسها القطب الدولي الوحيد المسؤول عن إدارة العالم كشرطي وحيد لا يشاركه في الإدارة أحد.
وطوال هذه الحقبة من التاريخ لم تشهد البشرية استقراراً للسلم والأمن الدوليين، كذلك تراجعت على نحو ملحوظ عجلة التنمية العالمية بفعل نظام الغطرسة الذي اتبعته أميركا وحطّمت فيه نواميس العلاقات الدولية التي كانت تحترم قواعد العمل في القانون الدولي وفيما جاء في مواثيق الأمم المتحدة، ومن المعروف لدى الباحثين والمؤرخين أن أميركا في العام الأول من القرن الحالي قد استشعرت فشلها في قيادة النظام الدولي لكونها قد نقلت العلاقات الدولية من نظام العدل والقانونية الدولية، إلى نظام اللا نظام القائم على الفوضى الخلاقة كما وصّفتها، ونظام الفوضى كان وسيلتها لهدم النظام الأممي القائم وإعادة تشكيله بإشرافها حتى يُعاد رسم الخرائط العالمية على قواعد التقسيم، وفرض مناطق النفوذ، وترويض الأمم المختلفة تباعا، وعدم التمسك بالسيادة الوطنية لتتحول العالمية إلى نظام تحت السيطرة، ولا يحق لأحد الاستقلال والخصوصية الوطنية ليكون الجميع بالأوامر الأميركية، موظفين مصالحهم الوطنية كما ترغب أميركا، وترضى عنهم، وعليه فقد مرت عقود ثلاثة على هذا الحال الدولي والعلامة الفارقة في تاريخها هي التوتر الدولي المتواصل، وبؤر الحرب في كافة القارات، وتسعير النزاعات الوطنية داخل كافة الأمم، وتشجيع عوامل الفتن الداخلية بنسف الوحدات الوطنية لها.
ورغم ما بذلته أميركا في هذا المنهج المتغطرس فقد فشل مشروعها الأممي، ونهضت في وجهها قوى عسكرية واقتصادية فرضت عليها مواجهة نظام دولي ظهرت فيه قوى غير مؤمنة بقدرة الولايات المتحدة منفردةً على قيادة النظام الدولي الإنساني والعادل طالما أنها لا تقرّ بالحقوق الإنسانية للناس والأمم.
ولمواجهة هذا النحو من التطور العالمي حاولت أميركا أن تبدّل منهجها من غطرسة القوة الغاشمة المعتمدة على القوة الصلبة، إلى بقاء الغطرسة لكن باستثمار القوة الناعمة ظنّاً منها بأن تفتيت العُرا الداخلية للشعوب يجنّبها أكلاف الحروب عليها من الخارج، وخاصة حين دخل الاقتصاد الأميركي أسوأ الحالات، وزادت الأزمة المالية الدولية مشاكله، ليتراجع نظام الرفاه الذي كانت تعمل به وهو أساس اللحمة الداخلية بين مواطنيها باعتبارهم من جنسيات دولية متعددة وليس لهم تاريخ قومي عريق أسوة بالأمم الأخرى.
وكما فشلت القوة الصلبة المعتمدة على التدخل العسكري في الشؤون الداخلية للأمم فشلت كذلك القوة الناعمة التي تعتمد على التدخل بالسياسات الأمنية والاقتصادية، وتفكيك عناصر الوحدات الوطنية، وتهيئة ظروف التقسيم والتقاسم في الجغرافية الوطنية لكل دولة، وعبر هذا التاريخ عادت إلى الحالة الدولية مشاعر الرفض للغطرسة الأميركية، وبدأ «الفيتو» يُستخدم ضد ما يطرح من قرارات الغطرسة الفاشية لتجد أميركا نفسها أمام جدار صدّ عالمي جديد، وهنا لم تعد المصالح العليا للشعب الأميركي هي المحرك الاستراتيجي لسياسات أميركا ما وراء البحار بمقدار ما أصبحت مقتضيات المشروع الصهيوني على أرض العرب هي صاحبة الأولوية، وعلى هذه الأرضية رُسمت مؤامرة التفكيك للنظام العربي وتحطيم «الجمهورية العربية» الحريصة على السيادة لصالح «الملكية العربية» المتنازلة عنها، ليدخل النظام العربي حقبة التصادم وتعريب الصراع، وتخرج الجامعة عن وظائفها العربية، ومعها مؤتمر القمة وكافة مؤسسات العمل العربي المشترك، وتغيب من الحالة العربية استراتيجية المصالح القومية الواحدة للعرب والعروبة، ويصبح القرار المسمّى عربياً في الجامعة، ومؤسسة القمة ممثلاً للمصالح الصهيوأميركية أكثر من تمثيله للمصالح القومية العليا للأمة العربية.
ولو نظرنا في طبيعة السياسات العربية اليوم لوجدناها في أسوأ ما مرّ عليها من تاريخ حيث تجرّأ ترامب على الجميع بكل ما يملك من غطرسة، ولا يخشى تشكيل أية نسبة من مشاعر الرفض عند نظام الممالك والمشيخات الحاكم اليوم في القرار العربي، لذلك أعلن عن «صفقة القرن» بعلاقة مكشوفة مع هؤلاء، وطرح التصفية الكاملة للحقوق الفلسطينية والعربية، ومنع مجلس الأمن من إصدار قرار إدانة لـ«الصفقة»، ولم تأخذه بالعربان أية ريبة أو احتساب.
وعلى المقلب الآخر فقد تبيّن للجانب الفلسطيني، وحتى الأردني أن سياسات الجري وراء المصالح الأميركية والصهيونية لم تصل بهما سوى إلى المزيد من التنازل عن كامل الحقوق والسيادة، ومع ذلك لم نجد ردّ الفعل المطلوب في الجامعة والقمة، وكذلك لدى أصحاب القرار في البلدان المعنية باستثناء الحالة الشعبية، وقد حذّرت سورية من خطورة هكذا سياسات حين يتنازل العرب عن حقّهم في المقاومة، وممارسة النضال التحرري الوطني، والقومي المشروع، وجاء على لسان السيد الرئيس بشار الأسد، ومن قبل القائد المؤسس حافظ الأسد بأن الجري وراء السياسات الأميركية والصهيونية لن يقود سوى إلى المزيد من التنازل عن الأرض والحقوق، وأن استرضاء أميركا وكيان العدوان أكلافه أكبر من مقاومتهما.
ومَنْ دخل إلى دهاليز أوسلو منذ العام 1991م، ومعه من دخل في معاهدة وادي عربة، وقبلهما السادات وكامب ديفيد ما الذي جنوهُ سوى المزيد من الاستسلام أمام كيان العدوان، والمزيد من بيع القضية، والاستتباع، وفقدان السيادة وقرار الاستقلال، ولو أن العرب قد اعتادوا على مراجعة التاريخ، والانتفاع من دروسه لعلموا بأن الغرب المتصهين لن يقبل التعامل معهم إلا لخدمة المشروع الصهيوني، وأنهم حين يُستتبعون له فلن تبقى لهم دولة ولا سيادة.
والغريب بهم أنهم لم يراجعوا بعد تآمرهم على سورية، وكيف أفقدهم قوة الصمود والمقاومة، وكيف هيّأ الجوّ لأميركا حتى تدخل أرض العرب بغطرسة القوة الفاشية، وتشجّع أردوغان على التدخل في سورية والعراق وخدمة مصالح الاستثمار بالإرهاب الدولي لتحطيم الدولة الوطنية العربية، وما أصابهم اليوم هو ما عبّر عنه الشاعر المتنبي: مَنْ يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ.
وحين يسأل المتتبع العربي المخلص إلى أين أيها القائمون على المسؤولية العربية في كافة أقطار العروبة ومؤامرة صفقة القرن تطرح عليكم بقوة؟ إلى أين تصل غطرسة أردوغان في تحشيد المزيد من القوة العسكرية لكي يمنع الجيش العربي السوري وحلفاءه من تحرير إدلب وهو حقٌّ سيادي منصوص عليه في كلّ الشرائع الدولية؟ إلى أين والمحاولات الأميركية الفاشية مكشوفة في دعم الإرهاب والاستثمار به على أرض العرب من العراق إلى ليبيا؟ وتصل الوقاحة في الفاشية الأميركية بالإعلان عن أنها ستساند حليفها الأطلسي أردوغان تحت مزاعم الحفاظ على المدنيين في إدلب، وكأن إدلب ليس فيها مجموعات إرهابية ومصنّفة بقرارات الأمم المتحدة؟ فإذا استمرّ الحال العربي على هذه المنوال فلا برٌّ يقي هذه الأمة ولا بحرُ.