تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


إلى من يهمه الأمر ميـــــلانو ..!

ثقـــافـــة
الجمعة 19-12-2008م
يوسف المحمود

(تابع): من قبل أن أدخل ميلانو بكثير، وبعد أن خرجت منها بقليل.

صحيح، أني استوحشت بمظهر الجفاف. الأرض بعد الحصاد. وجفلت من ظاهرة الدبّان. يسبقنا إلى ما وضعناه أمامنا على السماط، نتروق به. وذلك ما لم نشهده، فيما قطعناه من الطريق، في المغرب العربي، إسبانيا. ولا نحن أخذنا خبر ذبابة في فرنسا. وإن كان أقل قذارة، من مطروحات الكلاب. في الصباح: ختيار البيت، يخرج يقود كلب العائلة، يتفسح في جانبي برج إيفل، مثلاً. الكلب يرشرش البول، على أي حائط. أو يلقي بغائط الأطعمة المخصصة للكلاب، على مرأى من المارة، في عرض الرصيف. وكذلك في المساء من العصر وطالع. الختيار المتقاعد، على الأكثر. يمسك برسن الكلب. يجرجره هنا وهناك. يشمشم، ذيول المارة. والخانم تزهو بفرو على الأكتاف من خلفه. فلا من يستقذر، ولا من يستنكر!‏

ولكن أنا، في هذه المسافة، من قبل ميلانو، ومن بعدها، أسوق سيارة. لا زحمة في طريق، ولا تدافع في شارع. أقرب ما اعتادني من الطليان، قول مدرس الجغرافيا والتاريخ في الثانوي. الطليان مثلنا يحبون كثرة الأولاد في البيت. يليهم في أوروبا الألمان!‏

ومن أبي مهاجراً مرتين، العقد الأول، من القرن العشرين، وفترة الضائقة الاقتصادية، سنة 1929. وفي الاثنتين كان بياع كشه، في ريف ولاية التوكمان، عاصمة اللاربيبلكا أرخنتينا، بعد بوينو ساريس. وذات مرة، فيما كان يحكي، ضبطته ختيارة إيطالية، يأكل خبزاً وجبساً. دعاها لمشاركته وجبته المفضلة. أو لم يدعها. ولكنها الختيارة، بلا عظام فم، مثل أبي. قالت: «أنا مثلك، يامرشانتي، أحب الجبس بالخبز!» فهمس، قال، في نفسه: «فلاحة. ولا بأس..».‏

وفلاحة.. في قول أبي، لختيارة طليانية تحب، مثلنا، أكل الخبز بالجبس. فقد كان في هجرتيه المبكرة والمتوسطة. كما كانت تسمى آنذاك. يشاهد الطليان والإسبانيول والبرتغال، من حوض البحر الأبيض المتوسط. يحضرون للحصار، وملخ عرانيس الذرة الصفراء، وقطع الكانيا - قصب السكر. بحسب توالي المواسم أكثرهم يرجع، ليعود في الموسم التالي. ومنهم من كان يأتي بأهل بيته. فيقيم يشتغل أو يعمل في هذه الزراعة!‏

وفي البعيد، لمن شاهد مثلي، في القريب، شط عمريت، والتمثال، كاهله يعاند أن يتضعضع تحت مر العصور والدهور. تبدو له «تل الكزل». أو لا تبدو. فإنه لا يشك، فيما ترى عينه، صيف سنة 1974. هذا الجانب من أرض إيطاليا، أنه امتداد طبيعي لعمريت وتل الكزل، وما حولهما من الساحل السوري، وامتداده شمالاً إلى طرطوس. وأوغاريت، إلى بيت «البعل» في الجبل الأقرع!‏

وليس ذلك، في الأرض وملامح الأرض، فحسب. بل إني أرى فيما مررت بهم من ناس، في هذا الجانب من إيطاليا، سحنة وجوه الناس، كما لو كانوا بعضهم من بعض. من يوم ما عرف الفينيقيون على شط المتوسط في شرقه، وركبوا البحر، إلى جهات العالم، في غربه. بشرة الوجه الناشفة تقريباً. القامة حول الوسط. النحافة الغالبة، في الرجال والنساء. وحركة الأشخاص. يتصرفون في أشغال. أو يتبسيرون على شط البحر، في الأمسيات. أو بعضهم يحكي إلى بعض. إنهم الفينيقيون. تجار الصبغ، صبغ بهم حوض الأبيض المتوسط، أرضاً وأهلاً. الطليان، الإسبان والبرتغال، يذهبون إلى الحصاد في الأرجنتين. أبي بياع يتجول بالكشة على كتفيه. وكلهم يحبون أكل الخبز بالجبس... .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية