ومستهدفاتها, ومقدار الحاجة إليها ضمن ظرفها التاريخي القاضي بلزومها. وبذلك تكون المعرفة المطلوبة سواء بالعدو, أم بالصديق معرفة دقيقة, موثوقة, وشاملة باعتبار أن التحديد الاستراتيجي, والقرار الاستراتيجي بناء عليه كلما أتى بناؤه على مصداقية ما يتوافر من معلومات, ومن وثائق, ومن مؤشرات احتمالية صحيحة ملك الصدقية وجرى تنفيذه بنسبة كبيرة من النجاح, وعادت نتائجه بالفوائد المتوخاة على كافة الصعد التي اتخذ في سبيلها وتغيّرت مكونات ما توجه إليه بالاتجاه المقصود تحقيقاً لسلامة الدولة ومجتمعها داخلياً, وتقوية لوضعها -حين يحتاج الأمر- خارجياً, أو أممياً بالتعبير الأدق.
وعلى هذا التأسيس نعاير ما وضعته الإدارة الأميركية الحالية بزعامة الرئيس بوش الإبن من استراتيجيات عبر دورتي حكم البيت الأبيض, ومسؤولية عن حالة الولايات المتحدة الأميركية في معادلتي قيادة العالم, أم الهيمنة عليه كما جاء في كتاب الاختيار للمسؤول السابق في الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجسنكي. وفي سياق هذا الاختيار لم تكن أهداف السياسة التي اختيرت حتى تخدم استراتيجية داخلية, وعالمية لأميركا سليمة حيث إن صناع القرار الأميركي منذ أن وجهوا عناية الرئيس وإدارته- مستثمرين حوادث الحادي عشر من أيلول 2001- إلى احتلال منظومة الشرعية الدولية فيما أسموه بالحرب العالمية على الإرهاب الدولي, واحتلال إرادة الرفض الدولية لما ينوونه في شن الحرب على أفغانستان وغيرها. واحتلال سيادة الأمم- عبر إختراقها. أو وضعها تحت الضغوطات المختلفة- بحجة عدم الوقوف مع أميركا في الحرب المزعومة. وأخيراً احتلال آفاقية الحاضر الدولي, والمستقبل دون أن تنتبه الإدارة الحاكمة إلى أي حال يشعر الآخرين بالاستكبار أو باعتماد الروح الامبراطورية المرفوضة في عالم يتوق إلى الشراكة,والاستقرار, والازدهار.
والواضح في مجمل هذه السياسات التي اتخذت,والاستراتيجيات التي اعتمدت أن المصادر الاستخباراتية للمنظومة الاستخبارية الأميركية لم تتوافر على ما هو سليم في تقدير قوة الذي تضعه هي في خانة العدو, أو الخصم, أو المحايد وبناء عليه فقد تم تتويه الاختيارات السياسية, والاستراتيجية غير مرة من أفغانستان, إلى العراق, ويكفي أنه قد حصل اعتراف بالأخطاء في الكثير من بؤر التوتر التي تورطت فيها أميركا في بقاع الأرض والبداية من الحرب الكورية, وفيتنام وإنتهاءً باحتلال العراق الذي كانت حجته امتلاك بلدنا العربي لأسلحة التدمير الشامل وتهديده بها الأمن القومي الأميركي ليتضح بعد الاحتلال أنه لا شيء مما كانت التقارير الاستخبارية تؤكد وجوده.
ومن غريب الحال في الإدارة الأميركية أنها تعود إلى ممارسة الأخطاء ثانية دون أن يكون لديها منطق صحيح للمراجعة والنقد, وأخذ الخبرة, وتصويب القرارات الجيواستراتيجية, والجيوبوليتكية عموماً. وفي الأيام القليلة الماضية أي في الخامس من شباط الحالي عرض مدير الاستخبارات الأميركية القومية مايك ماكونيل لتقريره السنوي أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي حيث ورد فيه ما تراه استخباراته فيما يحدث على صعيد منطقة الشرق الأوسط كما يسمونها. والحال عليه فقد حذر التقرير من أن القاعدة لا تزال تنشط في الخليج العربي وتمثل تهديداً للغرب ومصالحه بعيدة المدى. وكذلك الجماعات والشبكات المرتبطة بالقاعدة في لبنان تمثل خطراً متزايداً على المصالح الغربية في الشرق الأوسط. وفي لبنان تعترض جهود المجتمع الدولي لضمان انتخابات رئاسية أعمال من سورية, وإيران, وحلفائهما في لبنان. والمعارضة اللبنانية تدخلت في كيفية تطبيق الحكومة اللبنانية لقرارات مجلس الأمن, وخرقت القرار (1701). ومع وجود قوات اليونيفل أطلقت صواريخ على شمال إسرائيل من منطقتها وقتل ستة أشخاص منها في عبوة ناسفة, وأكد التقرير أن عدداً من الميليشيات اللبنانية السابقة تعيد بناء ذاتها وتتسلح وتعيد تدريب مقاتليها, وأن التوترات السياسية الطائفية المتزايدة ترفع من إمكانية عودة الحرب الأهلية لهذا البلد. وأن مجموعات مسلحة بعضها مرتبط بالقاعدة تواصل تهديد الأمن الداخلي في لبنان.
وعلى صعيد سورية أوضح التقرير (أن دمشق تواصل تقويض سيادة لبنان, وأمنه من خلال الجماعات التابعة لها. والدعم للجماعات الإرهابية التي تعارض تقدم السلام. ولا تزال سورية تسمح للإرهابيين في عبور حدودها إلى العراق ولبنان) ثم يردف التقرير بأن جهود سورية لوقف تدفق المقاتلين الأجانب إلى العراق قد تحسنت خلال الشهور الماضية.
وعلى صعيد العراق يؤكد ماكونيل بأن لديه قلقاً من أن تنظيم القاعدة سوف يوجه إمكاناته لتغذية المزيد من الهجمات خارج العراق, أي السعي لضرب الولايات المتحدة الأميركية كما وجههم أسامة بن لادن.
وعلى صعيد فلسطين وإيران أشار التقرير إلى أن وقف طهران لبرنامجها النووي العسكري في العام 2003 يعود إلى تزايد الضغوط الدولية عليها, لكنه يجدد إتهام طهران بدعم الجماعات العنيفة مثل حماس, والجهاد وحزب الله, والعمل على زيادة نفوذها في المنطقة, والعالم الإسلامي. ويوضح التقرير بأن حماس في غزة تشعر بتزايد الضغط بسبب الوضع الاقتصادي المتردي, وتصاعد الأزمة الإنسانية عندها. وبرغم ذلك تبقى موجودة بشكل واضح خصوصاً جناحها العسكري.
ولو حاولنا أن نحلل مضامين هذا التقرير الاستخباري لوجدنا أنه من الوهلة الأولى نراه يتجاهل سببيات الوقائع ليخلص إلى اتهامات مقصودة لا تراعي وقائع الاحتلال الصهيو أميركي للمنطقة, وتتجاهل الأدوار العنصرية التي لا تزال (إسرائيل) تمارسها في مناطق احتلالها للأرض العربية بمساعدة أميركا وحلفائها الدوليين وحتى تغطي هذه الحقيقة التي هي بمثابة جوهر الصراع في المنطقة من منظور أنه لولا وجود الاحتلال لما وجدت هذه المقاومات العربية, ولولا وجود الاحتلال لم يكن هنالك أي مستدعى للنضال التحرري من الاستعمار. ولولا اغتصاب الحقوق التاريخية المشروعة لما احتاج العرب إلى إرادة القرار الواحد لاسترداد هذه الحقوق, ومع كل ما هي عليه حالة الاحتلال للأراضي والحقوق العربية نرى أن التقرير المعني يتعمد القفز فوق الحقائق والمنطق لينطلق من التركيز والتكريس لمفاهيم الفزّاعة آخذاً بالعرب عبر هذه المفاهيم إلى غير غايات تحرير الأرض من العدو المغتصب لها, ثم إلى غير التحديد السليم للعدو الحقيقي.
وبناء عليه يتم لفت الانتباه إلى نشاطات القاعدة حرصاً على المصالح الغربية في المنطقة العربية, وليس حرصاً على مصالح العرب أصحاب المنطقة التاريخيين. ثم إن سورية لا تزال تعترض جهود المجتمع الدولي في لبنان مع حلفائها. فهي تتدخل لتقويض سيادة لبنان وفي هذا الخصوص نجد أن الأميركيين يطلبون من سورية أن تتدخل في لبنان لكن حين يكون هذا التدخل في غير مصلحتهم يصبح تقويضاً لسيادة لبنان. وكأن سيادة لبنان مضمونة بالمشروع الأميركي فيه وليس بالمشروع العربي الوطني الديمقراطي كما هو مطروح من سورية وحلفائها.
إضافة إلى هذه المسألة نجد التقرير مرة يقر بدور سورية في منع تسلل المقاتلين الأجانب إلى العراق. ومرة ينكر عليها هذا الدور حتى تبقى مفاهيم الفزّاعة فاعلة كما يرسمون. ثم يرى التقرير أن سورية لا تزال تدعم جماعات الرفض الفلسطيني. وكأن فلسطين ليست محتلة, وهذه الجماعات المقصودة ليس لها أي حق بالنضال الوطني التحرري لكن الحق فقط هو (لإسرائيل) في احتلال أرضهم, وتشريدهم, وعدم الاعتراف بوجودهم. وحق عودتهم إلى أرضهم المغتصبة ثم إن إيران اليوم أصبحت تمثل الخطر الوحيد على طرفي الصراع في المنطقة (العرب والمحتلين الصهاينة). ومن خلال هذه الفزاعة الإيرانية يطلب من العرب أن يديروا الظهر لحقوقهم المغتصبة من (إسرائيل) وأميركا. وأن يتشاركوا مع هذين المحتلين ضد الخطر الإيراني المزعوم.
ثم يستدير صانع التقرير ليمارس على شعبه مفاهيم الفزاعة مدعياً بأن القاعدة تعمل على توظيف عناصرها خارج العراق لضرب الولايات المتحدة الأميركية. وقد فات (ماكونيل) أن الكراهية المتزايدة عند أمم الأرض لهذا المتغطرس الأميركي ليس سببها وقفة هذه الأمم مع القاعدة. ولا مناصرتهم لها, وإنما أسلوب الهيمنة, والكيل بمكيالين الذي تمارسه أميركا هو أهم سبب في تسعير وتائر العداء لأميركا, وكراهية دورها العالمي, وقد كان الرئيس السابق كارتر قد قال: (اذهبوا إلى سورية, ولبنان, وفلسطين تروا سبب الكراهية لأميركا واضحاً.) وبمحصلة كل تحليل للمحلل أن يؤكد أن هذا التقرير شأنه شأن كل ما لا تزال تصرُّ عليه هذه الإدارة ولا ينطلق من مصالح الشعب الأميركي. ثم إن هذا التقرير وما سبقه يحرف السياسات الاستراتيجية لأميركا ليضعها دوماً في خدمة بيت المال الدولي الصهيوني وخدمة (إسرائيل) كيان العنصرية, والإرهاب الدولي المنظم. وإذا كانت المصادر الاستخباراتية لن تصل في التاريخ القادم إلى الاعتراف بحقائق الصراع في منطقتنا العربية ولن تتحول عن مفاهيم الفزاعة فإن شعبنا العربي قد إنجلت أمامه الصورة, ولم يعد يفتح عقله لمثل هذه الأضاليل فالذي يتحدث عن الفزاعة في سورية وإيران, ومجموعات المقاومة العربية لن يخيف إلا نفسه, ولن يضلل إلا ذاته. فالعدو الحقيقي هو المحتل الإسرائيلي والأميركي, ومن يحالفهما وقيل في المثل الشعبي: (خيطوا بغير هذه المسلة).