لكن الأهم من ذلك هو أن نستقصي الحدث بمنهج التحليل والتركيب في مسعىً واضح لتحديد الأسباب والعوامل التي أدت إلى نشوبه والإرادات التي أطلقت مكونات الحدث ورعت حالة انفجاره وتفجره لأن القاعدة تقول لا جريمة بدون مجرم ولا مؤامرة بدون متآمرين ولا حدثاً عظيماً كالذي في سورية دون مقومات يرتكز إليها ومقدمات تؤسس للحدث نفسه وقوى تخطط وتنفذ، ترتب وتنظم إلى أن ينفجر الحدث وكأنه تطور طبيعي في الرد على واقع فاسد أو منقوص في سورية.
و هنا يكمن الصراع بجوهره حول الموقف من الحدث السوري ففي حين تنطلق برامج حثيثة ومتكافلة لتفسير ما يجري في سورية على أنه ثورة شعبية على الظلم والطغيان والفساد وهذا ما يراد منه خلق مشروعية موهومة لكل مستويات التخريب والممارسات الإرهابية وتكاثر قتل الروح البشرية البريئة، وفي هذا الجو نرى القوى المعادية في الإقليم أو على مستوى العالم تتكامل مجهوداتها لتجذير الأمر على أنه ثورة مشروعة من شعب متمرد على الظلم وضد الفساد، في حين يطرح الأمر في هذه الآلية نرى الحقيقة وقد كشف عنها واكتشفها واعتنقها كل إنسان طبيعي وهي تتمثل أساساً في استهداف سورية الوطن وليس مجرد النظام أو الحكام في الوطن السوري والإنسان العاقل العادي يكتشف ذلك بصورة جلية من مقدمات ثلاث.
أولها هذا الحلف بل هذا التحالف الآثم من واشنطن البعيدة إلى أنقرة القريبة والدوحة والرياض على التخوم وفي الهوامش، قوىً مشهود لها تاريخياً بالاستعمار وقتل إرادة الشعوب ونهب خيراتها وتدمير حضارتها وإن كان من مستلزمات الصنعة أن تضاف على نحو كاريكاتوري دولة جزيرة مثل قطر وحكام مهووسون مثل الحمدين الأمير والوزير، ونعلم جميعاً أن هذا التحالف ليس له مكونات في الشأن السوري ومواصفات الحال السوري إنما هو اصطفاف سياسي تآمري يريد تدمير سورية بموقفها ومزاياها وذاكرتها، أما المقدمة الثانية فهي المتمثلة بهذا الحجم الهائل من معطيات التأثير وعوامل القوة في الاعتداء على الآخرين عادة.
وهنا يتكامل الدعم المالي والعسكري مع الرعاية السياسية والنفسية لأدوات الاعتداء على سورية ويحيط بذلك كله ويحتضنه ضخ إعلامي لا يهدأ ولا يستريح يقوم على الخبرة الفنية وعلى غواية التزوير والفبركات والأسلحة هذه جميعها تتضافر وينفث كل سمومه اللزجة على العوامل الأخرى لكي تبدو المسألة على أنها منظومة موحدة طبيعية وليست مجرد عوامل متناثرة، وأما المقدمة الثالثة فهي القائمة في صيغة التواتر المتعمد في الانتقال من الوقائع الصغرى إلى شعارات إسقاط النظام وصولاً إلى الاستقرار على مادتين هما اعتماد القتل والإرهاب والتدمير بصورة عشوائية للوصول إلى حالة من إرهاب المواطنين والادعاء بوجود قوىً على الأرض والمادة الثانية هي أنه لابد في نهاية الأمر من الاستقواء بالأجنبي واستدعاء قوته وتفويض مجلس الأمن وحلف الناتو في تدمير سورية على الطريقة الليبية.
على أنه يجدر بنا أن نتنبه بأن التوصيف للحدث سوف يبقى مجرد مرحلة ضرورية بالتأكيد لأن الواقع هو الخزان الذي لايكذب ولا يخدع فيما يشتمل عليه من وقائع وممارسات موصوفة ومكشوفة ولكن المقطع الأهم يبقى في الدخول إلى العمق بقصد اكتشاف الدوافع ومن ثم التحرك على خطى الزمن القادم بقصد استشراف المساحات الكبرى والانعطافات الأهم والصور في مستقرها وثباتها، ولعله في الثلاثية معاً أعني التوصيف والتعرف إلى الدوافع والتطلع إلى المآلات القادمة، لعله في ذلك نكتشف باستمرار حقيقة ما يجري علينا من جهة وطبيعة ما نطلقه من قيم وقوى المواجهة ضد هذه المؤامرة الكونية الكبرى ونحن نعلم تماماً ثبات قاعدتين في هذا الموضوع، الأولى تؤكد أن الحدث في سورية سوف يتحول إلى معيار متأصل وبموجبه لن يكون ما بعد الحدث كما كان الأمر والوضع ما قبل الحدث، صحيح أنهم يحشدون الأسلحة كلها والقوى الحاقدة كلها لكن الصحيح هو أن سورية تتخلق من جديد عبر أبعاد أكثر عمقاً وأغنى خصوبة وهذا البلد مشهود له بهذه الخاصية إنه ينبعث باستمرار ونعود لنستذكر أن المملكة الفينيقية انتهت في الساحل الشامي ولكنها انبعثت في قرطاج في تونس الرائعة التي يلوث تاريخها وشرفها بأكبر دنس سياسي واجتماعي عبر مؤتمر(أصدقاء سورية).
أما القاعدة الثانية فهي التي تكمن في الدوافع والتي لا يمكن تقديرها عادةً إلاّ بشروط وحقائق من يقع عليه العدوان، إن من حقنا ببساطة أن نقول ضمن اعتبارات هذه القاعدة إن سورية كبيرة وعظيمة ومؤثرة وبالتأكيد تنشر مساحة من الخوف والقلق لدى قوى الظلام والعدوان والاستعمار في العالم كله على قدر ما تختزن سورية في ذاتها مصادر اليقين وعوامل التجدد والانبعاث ومستويات المساهمة البشرية في حضارة العالم قديمة وحديثة.
ولهذا المعنى يحدث هذا الاستنفار العالمي في مسعىً محموم لإزالة سورية الذاكرة والتاريخ والقيم والدور والموقف السياسي ولايوجد ما هو محط استغراب في سلوك الأعراب عند هذه الحالة فأين لهم أن يجدوا مطرحاً في التوازن وهم الذين جاؤوا في لحظة ضعف وفي زمن ظلام من آفاق مجهولة وبطريقة لا يعرف قرارها أحد لا في الأصول ولا في الانتماءات إلاّ ما كان متصلاً بادعاء اللبوس الإسلامي والزي العربي والوظيفة المغموسة بالاغتيالات وتدبير المكائد وشراء الضمائر والحقد على كل ما هو سوي وجميل وطيب، والإشارة هنا للعائلات المالكة الحاكمة دون سواها وقد عانى منها العرب في الخليج صنوف الاضطهاد والتزوير التي وصلت إلى حد تزييف إرادة الله عبر رسالاته فيما خلق وفيمن يخلق، إن استشراف القادم عبر هاتين القاعدتين أعني قاعدة الصراع بين موقفين هما سورية وقائمة الشر وقاعدة الأهمية بأن سورية ليست رقماً ولا هي كيان تقليدي بل هي موئل للحق القومي وللصبوات الإنسانية ومنبع للإشعاع على كل العالم إن الاستشراف لهذه المعاني يضعنا أمام تحديات أكبر وتزداد خطراً كلما انتصرت سورية وهكذا تبدو المعركة تاريخية ودائمة بين شرطيّ الانتصار السوري والخطر العالمي.