ولذا نبدأ من خانة «الإخوان» وهي خانة بإمكانها أن تشغل صفحات مجلدات عديدة، لمن يريد الاستقصاء و التتبع، والمقام هنا لا يتسع إلا إلى الإيماء أو الإحالة، فتاريخ هذه الجماعة حافل بالدم، والقتل، بقدر ما فيه من التفكير عقيدة، وسلوكاً، ولا يغرنك ماقالوه،أو ما سيقولونه قبل الوصول للسلطة في أي بلد، فهو مجرد جسر سياسي للعبور إلى مساحات التحكم، ولقد عرف جيلنا فيهم تلك الغلظة، والتشدد والغضب والإغضاب، باسم الغيرة على الدين، وهم أخوة التكفيريين إن لم يكن التكفريون لبابهم، وما كتبه سيد قطب أحد أهم قادتهم ومنظريهم لايزال متداولاً، بل ربما كانت أفكاره في جاهلية الناس هي الخطوة الأولى باتجاه تكفير من ليس مثلهم.
لقد استغل الإخوان الدين الإسلامي، كما استغله آخرون، عبر التاريخ لأهداف سياسية، لا بهدف تطبيق الرؤية والرؤيا المحمدية لهذا الدين، وهي رؤية مختلفة من حيث الرحابة، والشمول الإنساني، بل يلاحظ المدقق أن شراستهم وبلطجيتهم هي نتاج رؤية أحادية، مغلقة، صارمة، لهذا الدين، ويمكن القول عنها: إنها رؤية(مذهبية) بامتياز، تشتغل بالسياسة مستفيدة من تديّن الناس في بلادنا، وكان أهم شعار طرحته هذه الجماعة هو: الإسلام هو الحل وهو شعار فضفاض، بيد أنه يدغدغ العواطف، ويحرك مشاعر الناس، فيميل إليه الكثيرون، ويهرولون نحوه، وهذا ما حدث في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة في مصر، فباسم «دول بتاع ربنا» كما يقول أهلنا في مصر، حصلوا على تلك الأصوات، فهل هم بتاع ربنا حقاً؟
سأتوقف عند بعض المحطات السياسية الفارقة لهذه الجماعة، وعبرها يمكن أن نستقرئ المضامين المعلنة والخفية.
لقد وقف«الإخوان» منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي في سورية وحيث كان لهم تنظيم فاعل، وقفوا في صف الذين ارتبطوا بالأحلاف الغربية آنذاك، وكان أهم مالديهم من الدفاع، وأعني مجموعة الرجعية العربية مضافاً إليها جماعة الإخوان، أهم مرتكز فكري لهم هو أنهم يقفون مع الغرب لأنه غير ملحد، ويحاربون الاتحاد السوفييتي والشيوعية لأنها تدعو إلى الإلحاد وهكذا، باسم الدفاع عن الإيمان أسقطوا الدعوة للعدالة الاجتماعية المطلب الأعمق، ولكي لا يبدو وقوفهم فاقعاً إلى جانب الاستغلال والمستغلين أصدر الدكتور السباعي كتابه «الاشتراكية في الإسلام».
وهو أحد أهم قادتهم آنذاك، فكانت العدالة وعداً في كتاب لا شعاراً يستوجب النضال، كما كانت استجابة لروح ذلك العصر الذي كان للاشتراكية حضور نوعي فيه، وكانوا صادقين في ارتباطهم بالغرب، منذ نشوئهم حتى الآن، وظلت ذريعة الاتحاد السوفييتي صالحة عندهم، حتى لكأن الغرب الذي أقام إسرائيل، وحماها، ودججها بالسلاح هو غرب الإيمان والفطرة، والرسالة!!
في ذلك الزمن لم يتورعوا عن محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، لأنه شكل قطب الرحى، في مرحلة من المراحل، ضد المشروع الصهيوني الغربي، في زمن ما يمكن أن نسميه الحرب الأفغانية الأولى، ونعني تلك التي جرى فيها توجيه السلاح ضد الاتحاد السوفييتي... في تلك المرحلة وجهت الكتائب التي أعدت لقتال «الكفرة»!!، وغيب عن الناس أن ثمة ثروات بترولية، وغازية، وثروات في بواطن تلك الأرض، يسيل لها لعاب الشركات الكبرى.
في الربيع المصادر، هذا على اعتباره ربيعاً، ركبوا الموجة، واستفادوا من تعثرات المشروع القومي، ومن فشله، ووقفوا في وسط المشهد، لا كأناس يريدون تفتح كل الورود في ذلك الروض، بل كتنظيم وجد فرصته للانقضاض، وكان حراكه مجيراً أيضاً لمصلحة الغرب، ولم تكن قيادات التنظيمات الإسلاموية بعيدة عن مراكز القرار الغربي، وكيف تكون بعيدة ومعظم قياداتها تعيش منذ عشرات السنوات في عواصم تلك البلدان، وبجوار دوائر الاستخبارات في كل بلد ولذا يجيء حراكهم متسقاً، متناسقاً مع تلك العواصم، وفي كل مرة ثمة ذلك الشيء المركزي الصراع العربي الصهيوني الذي تختلف فيه بعض المعطيات الآنية ولا يختلف الجوهر، ولذا بادروا، بما يشبه التنسيق إلى تقديم أوراق اعتمادهم للصهاينة، من تونس، إلى مصر، إلى مجلس اسطنبول العثماني.. معلنين أنهم لن يتعرضوا بسوء لكامب ديفيد، بعض ذلك القول جاء صريحاً، وبعضه الآخر جاء مواربة أنه لن يعمل على إبطال تلك المعاهدة.
مع هذه النقطة من المهم ملاحظة أن جماعة الإخوان قد ركبت موجة تسعير الطائفية، وبجانبهم توابعهم ممن كانوا يحسبون أنفسهم على الليبرالية، وصار الهدف إسقاط( النظام) في سورية، لكسر حلقة المقاومة في تعاظمها، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى التوقف عند أن كل التحركات التي صدرت عن هؤلاء الجماعة كانت أبداً، وباستمرار، تصب في مصلحة المشروع الصهيوني الغربي، ولم يكن حراكهم الدموي في سورية في ثمانينيات القرن الماضي خارج هذا الإطار، فقد جاء على عتبات كامب ديفيد، ومرافقاً لها، وكان استهداف قواتنا المسلحة مطلباً رئيسياً في تلك المعركة وها هم الآن، وهذا يعني أنهم كالنبات الشيطاني، لا بد من تنظيف أرض الوطن من آثاره لكيلا ينبت مرة أخرى، وهذا لا يكون بالأدوات الأمنية وحدها، على أهميتها، في مرحلة دون مرحلة، بل بفضح هؤلاء العملاء، وبكشف خباياهم، وبتحصين الذات، وبمكافحة الفاسدين وبالاهتمام بالشرائح الاجتماعية الفقيرة، وبالديمقراطية.
-2-
أما (العربان) ففضائلهم لا تعد ولا تحصى!! ولعل من أهم تلك الفضائل الآن عدم إرباك العواصم الغربية، لتكون نفق الذهاب والإياب، كما جرى في أوسلو مثلاً، فهم يتحدثون مباشرة مع قادة تل أبيب، وينسقون معهم، ويستقبلون بضاعتهم، ويمنعون عن الشعب الفلسطيني الصامد كل قرش يمكن أن يسنده في سجنه، وفي صبره، وفي صموده، والأقصى مهدد بالسقوط، عمداً وما من مجيب.
يقول البعض: إن نصف ما أنفق على إسقاط النظام في سورية، لو أنه دفع للقوى الفلسطينية لكان لها شأن آخر في المواجهة المصيرية، وأنى لهم أن يدفعوا لمواقع المقاومة، ودورهم الأساس الاستجابة لرغبات عواصم الاستعمار الجديد، فهاهم منذ أن وقعت النكبة الفلسطينية إلى الواجهة، ويوم واكبوا شيئاً من ذلك لم يكن لهم أي فضل فيه، فقد جرتهم عواصم عربية فاعلة وراءها جراً، ودليل ذلك أنهم يخرجون هذا الخروج الآثم، المارق، بصيغة من الحقد على دمشق، لا نعرف سبباً له إلا أنها تقف جبلاً راسخاً في مواجهة ذلك المشروع.
لا شك عندي أن من فضائل هذه المعركة، إذ قلنا إن لها فضائل، أنها فضحت هؤلاء العربان الذين لا هم لهم إلا الاستكلاب على لذاتهم الشخصية، ولو كان الثمن أن يكونوا عملاء مباشرين للمسار الصهيوني الغربي.
-3-
إن المطلوب الآن:
1- إسقاط المؤامرة بحواملها، وبعض هذه الحوامل السلاح والتدمير والتخريب، وبعضه الآخر ثقافي فكري، وهذا يعني ضرورة وضع استراتيجية ثقافية فكرية يتم وضعها بالتوافق مع القوى الوطنية القومية التقدمية من خلال مؤتمر، أو دعوة، تعقد لهذه الغاية، غير ناسين أن الفكر يقاوم بالفكر، وما من سلاح أمضى من فضح المتطرفين التكفيريين من منظور إسلامي يفهم الإسلام كما أراده رسوله الأكرم، لا كما تريد صياغته مجموعة ضالة مضلة.
2- وضع برامج مدروسة، وحازمة، وسريعة التنفيذ لإزالة الآثار الروحية، والفكرية، والنفسية، التي خلفتها ارتكابات التكفير، والقتل، والاغتصاب والتدمير، لأنها صدوع خلفتها تلك الهزة الشيطانية ويمكن عبرها، إن لم نحسن الترميم والبناء، أن تمر الرياح العاتية، أو تتولد أعمال أخرى ليست أقل بشاعة، ولا أدنى دماراً.
aaalnaem@gmail.com