تبرز عبقرية الشعب الإيراني عند الحديث عن الثورة الإسلامية الإيرانية العظيمة كحدث استثنائي ربما يغطي في كثير من الأحيان على كثير من العناوين والتفاصيل التي كانت سابقة أو مصاحبة لهذه الثورة التي شكلت تحولاً استثنائياً ومفصلياً في تاريخ الشعب الإيراني الذي مازال يكافح الاستبداد والطغيان والاستكبار الأميركي.
فقد استطاعت عبقرية الثورة والنزوع الى الحرية أن تنقل الشعب الإيراني الى ضفة السيادة الكاملة والكرامة المطلقة وبانسيابية ملفتة، باختصار لقد نجحت تلك العبقرية في العبور بالشعب الإيراني الى بر الأمان وتجاوز ذلك المنحدر التاريخي الأخطر في تاريخه، بعد أن توحدت في وجدان الإيرانيين إرادة النصر ضمن بوتقة إنسانية جارفة للتحرر والانعتاق من ربق التبعية نحو آفاق الحرية والتطور، والانطلاق نحو المستقبل بإرادة ويقين مطلق بالقدرة الذاتية على بلوغ ذُرى الازدهار والحضارة وتحقيق طموحات وآمال الشعب الإيراني.
لقد انصهر إيمان الإيرانيين وحلمهم بالحرية والتحرر ضمن بوتقة قيمية خلاقة، استطاعت وخلال لحظة تاريخية استثنائية أن ترمي خارج حدودها الانسانية كل لوثات التعصب والتطرف الأيديولوجي والفكري والديني، وهذا تجلى من خلال تلاحم كل أطياف وألوان وشرائح الشعب الإيراني تحت راية إسقاط نظام الحكم السائد آنذاك- نظام الشاه العميل لأميركا- والذي أساء لمكانة إيران التاريخية والحضارية والإسلامية ،ولموقعها ودورها الجيوسياسي الهام والمؤثر في المنطقة، كونه جعل منها أداة استعمارية ورأس حربة للمشاريع والمخططات الصهيوأميركية التي كانت ولاتزال تستهدف حضارة وتاريخ وثروات المنطقة.
ضمن هذا السياق اكتسبت الثورة الإسلامية الإيرانية أهميتها ومكانتها ودورها التاريخي والحضاري، باعتبارها كانت ثورة الفقير والغني، وثورة المثقف والأمي، وثورة السياسي والمدني والاقتصادي والمتدين وغير المتدين، لقد كانت ثورة بقلب رجل واحد، وهذا ما أعطاها مزيداً من الاستثنائية المؤثرة والتفرد التاريخي الهام، ليس على المستوى المحلي والإقليمي فحسب، بل على المستوى الدولي والعالمي أيضاً.
الثورة الإسلامية الإيرانية كانت من أبرز التحولات التاريخية التي طرأت على المشهد الإقليمي والدولي في ثمانينيات القرن الماضي، كونها نسفت الخرائط الاستراتيجية لدول الاستعمار والاحتلال الأميركي والغربي والإسرائيلي، لاسيما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني اللذان كانا يراهنان على بقاء القرار والدور الإيراني كعامل داعم لمخططاتهما ومشاريعهما الاحتلالية والتدميرية والتخريبية، فكانت الصدمة الأميركية والإسرائيلية والغربية كبيرة بسقوط نظام الشاه الذي كان بمثابة ذراع أميركي للبطش وتنفيذ السياسات الصهيوأميركية في المنطقة.
منذ بداياتها الأولى وجهت الثورة الإسلامية الإيرانية ضربة قاصمة لسياسات الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت بعد ذلك التحول الكبير في مراجعة شاملة لاستراتيجيتها في المنطقة والعالم، على إثر انهيار وتهاوي مخططاتها ومشاريعها الآنية والاستراتيجية، وصولا الى وضع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الأجندة الأميركية أي على خط الاستهداف الأميركي الممنهج، وهذا ما أثبتته العقود الطويلة منذ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979 بقيادة الإمام الراحل الخميني.
لقد وضعت الثورة الإسلامية الشعب الإيراني على الطريق الصحيح، طريق التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي دفع بإيران إلى منصات الريادة الإقليمية والإسلامية والدولية، ليس هذا فحسب بل دخلت إيران بعد ثورتها المباركة في نهضة شاملة طالت كل نواحي الحياة العلمية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.
فعلى الصعيد الداخلي حققت إيران رغم الحصار والعقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية الجائرة التي مورست ضدها بذريعة سعيها لامتلاك أسلحة نووية، مزيداً من التطور في مختلف المجالات، حيث عززت الثورة الإسلامية الاستقلال السياسي والحياة الديمقراطية والسيادة الشعبية كما أسهمت في تطوير القطاع العلمي والتعليمي مع وجود أكثر من ألفي جامعة إيرانية تدرس مختلف الاختصاصات العلمية والطبية والتكنولوجية والهندسية والعلوم الإنسانية وغيرها.
كذلك نجحت إيران بعد انتصار ثورتها في تحقيق مراتب متقدمة في المجالات الطبية على مستويي المنطقة والعالم، وحققت إنجازات مهمة في علاج الأمراض المختلفة باستخدام الخلايا الجذعية حيث تحتل مركزاً متقدماً على مستوى العالم ،كما أنها تعد من بين أول عشر دول مصنعة لأدوية أمراض مستعصية.
وفي الجانب العسكري حققت إيران انجازات نوعية كبيرة في مجال الصناعات العسكرية الجوية والبحرية والبرية، حيث أصبحت القوات المسلحة الإيرانية تحتل المرتبة الثامنة من حيث القوة والتجهيزات في العالم، وشهدت البلاد نقلة نوعية على صعيد تطوير الأسلحة لديها وصناعتها بمجهودها الذاتي كصناعة وتطوير الصواريخ الباليستية والأقمار الاصطناعية، وصناعة المدرعات والسفن الحربية والمقاتلات الجوية، بالإضافة الى صناعة الرادارات والدفاعات الجوية ما جعل إيران قوة يحسب حسابها من حيث قدراتها الدفاعية ضد أي عدوان خارجي، ولعل قيام طهران بضرب قوات أميركا في قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق بعشرات الصواريخ كرد على جريمة اغتيال الفريق سليماني ورفاقه، يؤكد أن الجمهورية الإسلامية قد حققت فعلاً نظرية الردع الاستراتيجي وأن أعداءها باتوا يحسبون لها ألف حساب.
وعلى صعيد الفضاء حققت إيران تقدماً كبيراً وأصبحت ضمن الدول الخمس المتقدمة في مجال التقنية الفضائية وتحتل حالياً المرتبة الأولى على مستوى المنطقة في مجال علم الفضاء، كما فاجأت طهران بالأمس العالم بمحاولة جديدة لوضع قمر صناعي في الفضاء.
أما على الصعيد الاقتصادي فحققت الثورة الاسلامية العديد من المنجزات ومن أبرزها الحفاظ على موارد الثروة مثل النفط والغاز والحؤول دون نهبها من قبل الدول والشركات الغربية، إضافة إلى تدعيم البنى التحتية للتنمية وإعداد الكوادر المتخصصة في المجالات المختلفة وتطوير طرق إنتاج الطاقة وبناء السدود وتحديث شبكة الطرق والمواصلات والموانىء، وإشاعة مراكز التعليم في مستويات متعددة من أجل تحقيق هدف الوصول الى مرحلة الاكتفاء الذاتي في التصنيع العسكري والطبي والمدني كصناعة السيارات والصلب والتكنولوجيا كتقنية النانو وصولاً إلى الفضاء ومجالات اقتصادية متنوعة أخرى.
وفي المجال السياسي تميزت الثورة الاسلامية في إيران بمواقفها الصادقة التي تبنتها تجاه قضايا المنطقة وخصوصاً القضية الفلسطينية، فمنذ اليوم الأول لانتصارها قطعت إيران كل العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع الكيان الإسرائيلي وطردت سفيره فوراً وحولت سفارة هذا الكيان إلى سفارة فلسطينية، كما قطعت النفط والغاز عن هذا الكيان الغاصب، في حين دعمت ولاتزال مقاومة الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا بكل أشكال الدعم لمواجهة الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة الى جانب تقديمها الدعم الكبير للعراق في حربه ضد الارهاب الذي يستهدف الشعب العراقي بمختلف مكوناته منذ عدة سنوات.
والعلاقة الاستراتيجية مع سورية كانت أنموذجاً لمصداقية الجمهورية الإسلامية الإيرانية في دعم الدول المقاومة لكل المشاريع الصهيونية والغربية التي تستهدف المنطقة وأمنها واستقرارها، حيث تجسدت هذه العلاقة بشكل واضح من خلال دعم طهران للدولة السورية في محاربتها الإرهاب ومواجهة التدخلات الخارجية التي تستهدف شعبها ووحدتها، حيث شددت القيادة الإيرانية منذ بداية الحرب على سورية على ضرورة الحل السياسي الذي يضمن وحدة البلاد وسيادتها واستقلالها بما يحقق تطلعات الشعب السوري.
نختم بالقول إن الثورة الإسلامية الإيرانية كانت أحد أبرز التحولات الاستراتيجية التي هزت المنطقة خلال القرن الماضي، كونها شكلت من جهة ضربة قاصمة للمشروع الصهيو- أميركي في المنطقة، وكونها وضعت من جهة ثانية لبنة صلبة في قاعدة المشروع المقاوم لمخططات الهيمنة والاستعمار والاحتلال.