والواقفة مثل أفعى متربصة في مفترق طرق نخاف سلوك أي منها.. والأعجوبة تكون حين ندرك أن نيتشه أتقن أقصى درجات الإيجاز والتعبير.. بحيث يمكن لقصيدة واحدة أن تتحول إلى فلك ذكي يدفع الكواكب للتصارع ومن ثم بقاء البهلوان بالدوران..?! بلاغة مع الفخامة مع وجع الحقيقة, قدم نيتشه النحلة تلو النحلة وشكل ديوانه (الفظيع الجمال واللسع) هذا?!.
حين يتحدث نقاد الغرب عن هذا العبقري إلى حد الجنون سنلاحظ أن شرح قصيدته ينوس بين قطبين (أبولوني وديونيزوسي), إذا علمنا أن أبولون هو إله الشمس والشباب والوضوح والموسيقا - العقل البرهاني النسقي - فيما ديونيزوس هو إله الخمر والعربدة - الجسد المتوتر المنفعل - سنحس سر حرارة انحياز نيتشه لديونيزوس, فمن مبدأ حسي ينصحنا بلغته الشعرية الشهيرة (لا تطلب شيئاً! ما جدوى التأوه! بل خذ, أرجوك, وعلى الدوام), وخبث ديونيزوس يلتمع كحد النصل في قول نيتشه: (أطامح إلى المجد أنت? إليك إذاً بالنصيحة: كن حراً, وفي الوقت المناسب, تنازل عن المجد!).
خلال الديوان سنكون تحت سطوة لغة نيتشه وأسلوبيته الآمرة الناهية النزقة, بمخاطبتنا كقراء -متلقين- وسنغفرها له أمام إشراقات يقولها انطلاقاً من فهمه الخاص للوجود ووعيه المنبثق من تيقظ مرعب: (المشي على رؤوس الأصابع أولى من السير على أربع قوائم, والمرور عبر ثقب أولى من المرور عبر الأبواب المشرعة).
يزيد من عيار ديكتاتوريته الراقية التي يريد منها دفعنا وبعنف وبإصرار إلى أن نكون (سوبرمانات), ثمة قصيدة بعنوان (إلى قارئي) يقول فيها (فك جيد, ومعدة جيدة, هذا ما أرجوه لك! وحين تكون هضمت كتابي, حينها تكون على اتفاق معي).
بتوق يحرضنا على امتلاك شريعة النجوم, أن نرسل بالضياء إلى العالم الأكثر بعداً لتكون سيرتك سيرة نجم, تمشي بنا عجلة الشعر (النيتشوية) وتمزجنا بتراب الحقيقة أكثر وتعجننا مجدداً بصلصالنا كاشفة لنا عن الدجل المحتمل في الأشياء حولنا.
(هوذا الإنسان, نعم, أعرف جيداً من أين جئت! ظامئاً كما الشعلة, أضطرم كي أفنى, ضياء يصبح ما أمسكه, وما أتركه فحماً يصير: لأنني بالتأكيد شعلة).
يمكن للشاعر -عادة- أن يعمد إلى هدهدة تعب القارئ فيشفق عليه ويسمح له بمجاراته عبر إبطاء سير القصيدة لكن مع فيلسوف شاعر مثل نيتشه, سيسخر من تشوشنا ويضحك من ملامحنا فيما نحن نتلقى سهامه متنازلين عن حقنا بالفرار مما يرشقنا به دون رحمة.. فلخاطر الوصول إلى درجة الإنسان الأعلى (السوبرمان), لا بد من معاركة الحقائق ويسمح لنا مؤقتاً بشتمه فنقرأ دون أن نعاتبه على حدة ما يقوله وبلا جدوى ويكون نفورنا من صراخة الساحر..
ديوان نيتشه الشعري قصائده كما يقول أحد النقاد (في قصائده تجاذب خلاب بين السرور والألم, وكأنه يجاهد في سبيل التحصيل على حالة ثالثة يتجاوز فيها الحدين), الألم وهو بطل حياته الذي حركه نحو الإبداع الغزير (أنا أعرف الحياة معرفة جيدة.. لأنني كنت في وشك فقدانها .. اعتقد أني أديت مهمتي في الحياة كما يؤديها رجل لم يمنح ما يكفيه من الوقت في كل أطوار حياته), كانت شدة الألم عنده هائلة لا تطاق سواء على الصعيد الصحي أو العاطفي.. عرف عنه غرامه المكتوم لكوزيما زوجة الموسيقي الشهير فاغنر وفي مرحلة جنونه اعترف قائلاً: (أحبك أريان) استخدم اسم أريان كاسم رمزي مستعاد من الميثولوجيا الإغريقية وهي أميرة أعطت خيط الخلاص لحبيبها الذي ولج كهفاً عميقاً لقتل وحش (المنيتور) وحين خرج غدر بها ونسي ما قدمته له, رغم الجنون ظل محافظاً على وعيه الثقافي بطريقة مذهلة, ليس مجنوناً عادياً من يستخدم اسم أريان بتلك الطريقة ولمن يذكر فإن غوته استخدم الاسم نفسه في الفصول الأخيرة من رواتيه الشهيرة (آلام فرتر).
لم يخف ألمه نتيجة وضعه الصحي الذي انعكس على حالة جسده (إنما الجسد هو عقل هائل, تعددية ذات معنى واحد, حرب وسلم, قطيع وراع) مع نيتشه يكف الجسد عن أن يكون عائقاً, بل يصبح الشرط الأساسي للمعرفة والوجود.. في ديوانه تلتمع أسباب مهمة, لندري لماذا وصف بفيلسوف الانقلابات الكبرى?!.