نسبياً فلم تلق حتى الآن الاهتمام الذي تستحقه، ألا نريد أن نفهم كيف شاهد السائح الأجنبي بلادنا؟ ماذا أعجبه وماذا لم يعجبه؟ ماذا أدهشه وماذا صدمه؟ ألا يهمنا أن نعرف كيف حدّث أهل بلده عنا وعن بلدنا؟
للإجابة على هذه الأسئلة من الضروري أن نترجم وننشر وندرس كتب الرحلات الأجنبية الحديثة، فعن طريقها نستطيع أن نرى وقائع وحوادث تظهر لنا عادية بينما هي غير عادية وقد تكون سلبية في عيون الآخر، فإن كانت سلبية علينا العمل على تغييرها، وان كانت ايجابية ولكنها ظهرت سلبية أمام الآخر يجب أن نتعلم كيف نظهرها أمامه أو كيف نشرحها له.
في هذا الإطار يأتي كتاب ( التجوال استشراقاً ) للبروفيسور «ايروس بلديسيرا» أستاذ اللغة والآداب العربية في جامعة «كا فوسكري» في البندقية المتخصص بالأدب السوري الحديث، الصادر مؤخراً عن دار المدى بترجمة بلديسيرا ومنذر نزهة, وسبق لهذا الكتاب أن نُشر في ايطاليا في عام 2007 ( بالإيطالية طبعاً ) ليروي ذكريات الكاتب في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، خلال رحلاته كسائح طالب استشراق في منطقتنا العربية وخصوصاً في سورية التي استمر بالعودة إليها منذ تلك الفترة وحتى اليوم بمعدل رحلة أو رحلتين سنوياً.
يبدأ المؤلف برواية الظروف التي دفعته ليدرس اللغة العربية في جامعة فينيسيا، ثم يأخذ برواية أحداث رحلاته الأربع الأولى بين 1968 و1971 إلى شمال إفريقيا وشرق المتوسط، ويتذكر الأماكن التي زارها، والشخصيات «الغريبة» التي قابلها، والانطباعات التي بقيت في نفسه.
إنه لا يمدح ولا يذم، لا يبالغ ولا يجامل ولا يحاول إثارة قارئه الايطالي، وإنما ينقل ببساطة تجربة شبان وفتيات درسوا الاستشراق، وتجولوا في تلك السنوات في بلاد مختلفة كل الاختلاف عن بلدانهم، بلاد حلموا بها بطريقة رومانسية ليواجهونها أخيراً من ناحية واقعية، منهم من رفضها ومنهم من تعلق بها وفهمها وربط حياته بالدراسة عنها، كالمؤلف الذي ارتبط بصداقات عمرها أربعة عقود مع العديد من الوجوه الهامة والمؤثرة في بلادنا.
تعتبر الفترة التي يتحدث عنها الكتاب فترة تاريخية هامة في المنطقة: مصر عبد الناصر وهزيمة 1967 لا تزال حاضرة، الأردن قبل شهر من أحداث أيلول الأسود، العراق في عهد الرئيس البكر ونائبه صدام حسين، وكلها أمور شعر بها المؤلف وعبر عنها من خلال أفكار الشاب الرحالة المستعرب الذي كانه.
قدم للكتاب الشاعر نزيه أبو عفش ومن هذه المقدمة نقتطف:
لم يكن «إيروس بلديسيرا» يعرف، حين قام بأولى رحلاتهِ إلى الشرق، مدفوعاً بأحلامِ الفتوّةِ والظمأ إلى اكتشاف الخفيّ من حياةِ بشرٍ يعيشون هناك, على الضفّة الجنوبية من البحر الذي أسندت إليه الجغرافيا دورَ الخندق المائي العازل بين شمالِ الحضارة وجنوبِ التخلّف.., لم يكن يعرف أنه سيقع لاحقاً, وعلى مدى أربعة عقود وأكثر, أسيرَ ذلك الجنوب العاثر الذي كُتبَ عليه إلى الأبد أن يظلّ شرقاً خرافياً, غامضاً ومريباً, مفتوحاً بلا رحمة لفضولِ وغزواتِ البحاثةِ والمستشرقين وهواةِ تَصَيُّد الغرائب.
استطاع «إيروس بلديسيرا» خلال وقت غير طويل النفاذ إلى عمق الصورة، وتحوّل شيئاً فشيئاً من مغامرٍ متعالٍ قادمٍ من «جهة الحضارة» إلى جوّالِ ثقافةٍ سرعان ما سيكتشف أن الآخر ـ أياً كانت عقيدته وعرقُه وجغرافيته ـ ليس سوى امتدادٍ ومكمّل، وأنّ تنوّع الثقافات هو العلامةُ التي تؤكد على وحدة الإنسانية لا على تناحرها وتناهبها وتذابحها وهمجيةِ عقائدها ونُظُمها. ذاك لأن «إيروس» في الأساس ليس مستشرقاً بالمعنى الحرفي لمصطلح «الاستشراق» فهو إلى جانب كونه مصوراً موهوباً وهاويَ ترحال ممسوساً برغبة اكتشاف ما يقع وراء الضفة الأخرى للبحر (الذي لسبب بالغ الدلالة سُمّيَ «البحر المتوسط») كان, قبل الانغماس في مشروعه الأكاديمي, يُعدّ نفسه لأن يكون موسيقياً ومغنياً (حصل ذلك أواسط الستينيات, فترةَ انتفاضة الشباب الأوروبي التي شملت القارة كلها)... ثم شيئاً فشيئاً تحوّل إلى كتابة القصة والاهتمام في البحوث التاريخية واللغوية, إضافة إلى ما أنجزه من ترجمات بالغة الأهمية لأعمال عدد غير قليل من كتاب سورية وشعرائها.
«إيروس بلديسيرا», إضافةً إلى موقعه الأكاديمي, منشّطٌ ثقافي حاضرٌ بامتياز في منابر ذات شأن تعنى بثقافات الشرق وشعره وفنونه, حرصَ دائماً على إبراز خصوصيات ثقافة الآخر وتنوُّع أفكاره وتطلّعاته ومذاهبهِ الروحية والفكرية والاجتماعية. «إيروس بلديسيرا» مستشرقٌ قادمٌ من جهةِ الإنسان, لا يعنيه البحثُ التقليديّ عن الهوية الجغرافية أو التاريخية للبشر, بقدر ما يعنيه البحث عن هوية قلوبهم وضمائرهم وأحلامهم. «إيروس بلديسيرا» ليس أستاذاً للأدب العربي في جامعة فينيسيا فقط, بل هو داعيةُ ثقافة ومؤسس مدرسةٍ للحوار. استطاع ـ على مدى أربعين سنة من جهد العقل والقلب ـ أن يحوّل علاقته بالشرق إلى علاقة صداقةٍ وتكاملٍ واغتناء.الموضوع: إيروس بلديسيرا.. الوقوع في كمين الحب
المؤلف:
المكان:
المصدر:
التصنيف: فضاءات ثقافية
التاريخ: الأحد 6-6-2010م
الرقم: 14239
الملخص: ازدهرت في السنوات الأخيرة حركة تحقيق ونشر الرحلات العربية القديمة، كما بدأت عملية ترجمة ونشر الرحلات الأجنبية إلى بلادنا منذ العصور القديمة وحتى القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين، أما ترجمة الرحلات الحديثة والحديثة نسبياً فلم تلق حتى الآن الاهتمام الذي تستحقه، ألا نريد أن نفهم كيف شاهد السائح الأجنبي بلادنا؟ ماذا أعجبه وماذا لم يعجبه؟ ماذا أدهشه وماذا صدمه؟ ألا يهمنا أن نعرف كيف حدّث أهل بلده عنا وعن بلدنا؟
للإجابة على هذه الأسئلة من الضروري أن نترجم وننشر وندرس كتب الرحلات الأجنبية الحديثة، فعن طريقها نستطيع أن نرى وقائع وحوادث تظهر لنا عادية بينما هي غير عادية وقد تكون سلبية في عيون الآخر، فإن كانت سلبية علينا العمل على تغييرها، وان كانت ايجابية ولكنها ظهرت سلبية أمام الآخر يجب أن نتعلم كيف نظهرها أمامه أو كيف نشرحها له.
في هذا الإطار يأتي كتاب ( التجوال استشراقاً ) للبروفيسور «ايروس بلديسيرا» أستاذ اللغة والآداب العربية في جامعة «كا فوسكري» في البندقية المتخصص بالأدب السوري الحديث، الصادر مؤخراً عن دار المدى بترجمة بلديسيرا ومنذر نزهة, وسبق لهذا الكتاب أن نُشر في ايطاليا في عام 2007 ( بالإيطالية طبعاً ) ليروي ذكريات الكاتب في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، خلال رحلاته كسائح طالب استشراق في منطقتنا العربية وخصوصاً في سورية التي استمر بالعودة إليها منذ تلك الفترة وحتى اليوم بمعدل رحلة أو رحلتين سنوياً.
يبدأ المؤلف برواية الظروف التي دفعته ليدرس اللغة العربية في جامعة فينيسيا، ثم يأخذ برواية أحداث رحلاته الأربع الأولى بين 1968 و1971 إلى شمال إفريقيا وشرق المتوسط، ويتذكر الأماكن التي زارها، والشخصيات «الغريبة» التي قابلها، والانطباعات التي بقيت في نفسه.
إنه لا يمدح ولا يذم، لا يبالغ ولا يجامل ولا يحاول إثارة قارئه الايطالي، وإنما ينقل ببساطة تجربة شبان وفتيات درسوا الاستشراق، وتجولوا في تلك السنوات في بلاد مختلفة كل الاختلاف عن بلدانهم، بلاد حلموا بها بطريقة رومانسية ليواجهونها أخيراً من ناحية واقعية، منهم من رفضها ومنهم من تعلق بها وفهمها وربط حياته بالدراسة عنها، كالمؤلف الذي ارتبط بصداقات عمرها أربعة عقود مع العديد من الوجوه الهامة والمؤثرة في بلادنا.
تعتبر الفترة التي يتحدث عنها الكتاب فترة تاريخية هامة في المنطقة: مصر عبد الناصر وهزيمة 1967 لا تزال حاضرة، الأردن قبل شهر من أحداث أيلول الأسود، العراق في عهد الرئيس البكر ونائبه صدام حسين، وكلها أمور شعر بها المؤلف وعبر عنها من خلال أفكار الشاب الرحالة المستعرب الذي كانه.
قدم للكتاب الشاعر نزيه أبو عفش ومن هذه المقدمة نقتطف:
لم يكن «إيروس بلديسيرا» يعرف، حين قام بأولى رحلاتهِ إلى الشرق، مدفوعاً بأحلامِ الفتوّةِ والظمأ إلى اكتشاف الخفيّ من حياةِ بشرٍ يعيشون هناك, على الضفّة الجنوبية من البحر الذي أسندت إليه الجغرافيا دورَ الخندق المائي العازل بين شمالِ الحضارة وجنوبِ التخلّف.., لم يكن يعرف أنه سيقع لاحقاً, وعلى مدى أربعة عقود وأكثر, أسيرَ ذلك الجنوب العاثر الذي كُتبَ عليه إلى الأبد أن يظلّ شرقاً خرافياً, غامضاً ومريباً, مفتوحاً بلا رحمة لفضولِ وغزواتِ البحاثةِ والمستشرقين وهواةِ تَصَيُّد الغرائب.
استطاع «إيروس بلديسيرا» خلال وقت غير طويل النفاذ إلى عمق الصورة، وتحوّل شيئاً فشيئاً من مغامرٍ متعالٍ قادمٍ من «جهة الحضارة» إلى جوّالِ ثقافةٍ سرعان ما سيكتشف أن الآخر ـ أياً كانت عقيدته وعرقُه وجغرافيته ـ ليس سوى امتدادٍ ومكمّل، وأنّ تنوّع الثقافات هو العلامةُ التي تؤكد على وحدة الإنسانية لا على تناحرها وتناهبها وتذابحها وهمجيةِ عقائدها ونُظُمها. ذاك لأن «إيروس» في الأساس ليس مستشرقاً بالمعنى الحرفي لمصطلح «الاستشراق» فهو إلى جانب كونه مصوراً موهوباً وهاويَ ترحال ممسوساً برغبة اكتشاف ما يقع وراء الضفة الأخرى للبحر (الذي لسبب بالغ الدلالة سُمّيَ «البحر المتوسط») كان, قبل الانغماس في مشروعه الأكاديمي, يُعدّ نفسه لأن يكون موسيقياً ومغنياً (حصل ذلك أواسط الستينيات, فترةَ انتفاضة الشباب الأوروبي التي شملت القارة كلها)... ثم شيئاً فشيئاً تحوّل إلى كتابة القصة والاهتمام في البحوث التاريخية واللغوية, إضافة إلى ما أنجزه من ترجمات بالغة الأهمية لأعمال عدد غير قليل من كتاب سورية وشعرائها.
«إيروس بلديسيرا», إضافةً إلى موقعه الأكاديمي, منشّطٌ ثقافي حاضرٌ بامتياز في منابر ذات شأن تعنى بثقافات الشرق وشعره وفنونه, حرصَ دائماً على إبراز خصوصيات ثقافة الآخر وتنوُّع أفكاره وتطلّعاته ومذاهبهِ الروحية والفكرية والاجتماعية. «إيروس بلديسيرا» مستشرقٌ قادمٌ من جهةِ الإنسان, لا يعنيه البحثُ التقليديّ عن الهوية الجغرافية أو التاريخية للبشر, بقدر ما يعنيه البحث عن هوية قلوبهم وضمائرهم وأحلامهم. «إيروس بلديسيرا» ليس أستاذاً للأدب العربي في جامعة فينيسيا فقط, بل هو داعيةُ ثقافة ومؤسس مدرسةٍ للحوار. استطاع ـ على مدى أربعين سنة من جهد العقل والقلب ـ أن يحوّل علاقته بالشرق إلى علاقة صداقةٍ وتكاملٍ واغتناء.