وهذا يزيد من حوارية الرؤى الأسطورية، الأكثر غموضاً وغرابة في رموزه وعلاماته ودلالاته الايحائية والميثولوجية.
فالهاجس القصصي الملحمي الشرقي، كان ولا يزال يطل وبقوة في أشكاله الخيالية، كما أن عناصره ورموزه تتنوع وتتداخل، في خطوات البحث عن إيقاعات جمالية جديدة، فرضتها وبشكل غير مباشر أحلام وتخيلات مراحله العمرية المتعاقبة، وما ترسخ في وجدانه من رؤى اسطورية وتخيلات وعناصر رمزية وايحائية.
متحدثاً عن جداريته الجديدة
ومن هذا المنطلق لايمكن تحليل جداريته الجديدة، دون العودة الى معطيات ثقافته التاريخية الواسعة والغنية والمتشعبة، والتي كان منذ بداياته ولا يزال يبحث عنها، في عودته الدائمة الى الينابيع الحضارية والاساطير القديمة، لأنها بالنسبة اليه شكلت المنطلق، وكونت ثوابت خطه الفني التصاعدي والخاص، ومصدر ايحاءات الرؤية الفنية الحديثة، التي تعطي لوحاته قدرة على التجدد والاستمرار.
وفي هذه الجدارية الملحمية البانورامية (قياس200 * 150 سم - زيت على قماش) يجهد في جلسات عمله الطويلة لاعادة دورة التاريخ والحضارات، مؤكداً استمرارية الأحلام والتصورات والتخيلات، فسورية في جداريته الجديدة (رغم انكسارها واضطرابها في أزمنة التخلف والانحطاط والجهل والموت المعلن) تبقى قادرة على التجدد والانبعاث واستعادة دورها الحضاري المشرق كجسر يصل الشرق بالغرب.
هكذا يعود معد الراهب حاملاً إلينا رؤيته المتجددة، المنطلقة من الماضي الحضاري السحيق، والمتجهة نحو الحاضر والمستقبل، ليؤكد من جديد ان الحرب يمكن أن تغتال كل شيء، إلا الاحلام والقدرة في كل مرة، على الانبعاث كطائر الفينيق، من بين الرماد، والارتباط بماضي الامجاد، الذي صنعته ملكات وأميرات الزمن الغابر في شرقنا العربي والسوري تحديداً.
وفي لقاء جمعني معه مؤخرأ تحدث الفنان معد عن جداريته الملحمية الجديدة قائلاً: «عنوان اللوحة زنوبيا التي تعني سورية في عصرها الذهبي، عذراء سورية تعود من جديد، وتتحرر من أسرها في روما، لتعيد دورة الحضارات لسورية.. وفي جداريتي يحيط بزنوبيا: آلهة الينبوع - الماء.. منيرفا - الحكمة والحرب.. عشتار- الخصب والجمال».
تخيلات المدن الآفلة
فهو يؤكد من جديد رغبات التفاعل مع بقايا معطيات الأزمنة الغابرة، المستوحاة من علاقته المزمنة مع البقية الباقية من جمالية آثار المدن الآفلة والمغمورة والمنسية،وفي مشاهدات المعابد وبقايا القصور والقلاع والزخارف الهندسية والكتابات والإشارات والرموز المختلفة الدلالات والتفسيرات. كل ذلك بإيقاعات وجدانية تصل بالأشكال المرسومة إلى خصوصية وأسلوبية خاصة ومميزة ومستقلة.
ومنذ أعماله الأولى اتجه معد لاستعادة معطيات ورموز التاريخ الحضاري القديم، مؤكدا قدرته على تحويل الحكاية الميثولوجية، الى لغة تشكيلية معاصرة، فالشيء الثابت في برنامج يومياته، يكمن في إيجاد حالة من العلاقة الحيوية التي تربط بين تداعيات الماضي ومعطيات الحاضر، وتوليفة المستقبل، معتمدا على الحوار اللوني الرصين والعفوي في آن واحد.
فقد كان ولا يزال يعمل وبشكل يومي ومتواصل، على تحريك بعض عناصر الحضارات السورية المتعاقبة بلمسات اللون والتكوين المدروس. فاللوحة هنا هي فسحة للتأمل أو لبلورة الروح الجمالية لشاعرية الحكاية القادمة من عمق الأزمنة الغابرة والمنسية، حيث يستعيد الوجوه والعناصر القديمة بأشكالها المختلفة، وكل ذلك يوحي بتداخل الأزمنة، في خطوات التفاعل مع هذا الحلم الشرقي، القادم من تأملات آثار المدن المنسية التي لاتزال رغم تفاقم حالات الغربة التي نعيشها حية في نفوسنا وذاكرتنا.
ولوحات معد الجديدة، تبدو مكملة لاعماله التي عرضها في مراحل سابقة، مع حضور بعض الفروقات في توليف العناصر التاريخية والاسطورية، المتفاوتة ما بين الواقعية والكلاسيكية والتعبيرية، فهو يرسم المشاهد الأثرية والوجوه التاريخية، ويعمد أحياناً الى كسور افقيتها الواقعية بإضافة خطوط شاقولية وافقية، ومن هنا تأتي الحساسية الشاعرية والقوة الأدائية في مجمل لوحاته السابقة والجديدة.
تجسيد النحت بالرسم
وهو يعتمد على مبدأ الانحياز نحو المثالية في استعادة معطيات الماضي الحضاري العريق. من أجل الوصول إلى حالة متداخلة بين المرئي والمحسوس، فالتخيلات الاسطورية الحاضنة لبعض عناصر التراث الأثري تتحول على سبيل المثال من حالة إلى حالة، في ظل الاقتراب أو الابتعاد عن الصياغة الواقعية. فهو لايقدم لوحة توثيقية او تأريخية وإنما يميل نحو الصياغة التعبيرية التي تحافظ على قدر من الحرية والعفوية في معالجة ملامح الأشكال أو المشاهد، وأحياناً أخرى يزاوج بين مؤشرات اللونية الرومانسية المثبتة في جزئيات لوحة المشهد الاسطوري المفتوح على عناصر وأوابد وبقايا معطيات الحضارات القديمة، حيث لا فواصل ولا حدود هنا بين حضور ملامح الأشكال وبين غياب أجزاء منها أحياناً في بعض تشكيلات وتكوينات اللوحة.
وهكذا نستطيع الحديث عن اختراق المظهر السطحي للاشكال المرسومة، في خطوات البحث عن التركيب الفني والتشكيلي، الذي يعمل من خلاله على تصعيد ميزة الرومانسية، التي توازن في أحيان كثيرة ما بين إشارات المظهر التعبيري، وحركات اللمسات اللونية المتتابعة.
ومن خلال هذا التداخل بين مؤشرات الأشكال الواقعية والعناصرالتشكيلية واللونية، يصل إلى إيقاعات إشارية ورمزية أحيانا،ً تغلب عليها لغة التلميح القادر على الايحاء بعمق وغنى وخلود وحيوية معطيات الحضارات القديمة.
فحكايات اللون الزيتي على هذا لم تكن في لوحاته سوى شعرية ورومانسية، للتعبير عن هذا البحث المطلق عن شاعرية مرهفة، تجسد الوجوه والعناصرالأثرية المستمدة من تداعيات الحلم الإنساني، مع جنوحه لإظهار المزيد من الأناقة والرقة والحساسية في استخدام الكثافة اللونية.
وبعد مقارنة ومقاربة بصرية بين معطيات بحوثه التقنية المتنوعة، يمكننا أن نتفهم الإشارات الأسلوبية الواضحة، التي يرتكز عليها في خطوات تنقله من لوحة الى اخرى، وهذا يعمل على تطويع العلاقة القائمة بين الرسم والنحت(لأنه في الغالب يجسد في لوحاته منحوتات قديمة) ويعكس ما في العصر من أحلام واختبارات فنية، منفتحة وبحرية على كافة التيارات التعبيرية والتقنية القائمة ما بين وسائل التعبير المختلفة.
ولقد أفاد سفره إلى الخارج كثيراً (جولاته في بعض العواصم والمدن العالمية والعربية) في الاطلاع والانفتاح على أمور فنية كثيرة، دفعته أكثر فأكثرباتجاه إلغاء المنظور التقليدي، واستبداله بالتكوين الفني المفتوح من الطرفين أفقياً وعمودياً، لإيجاد حالات جماليات بصرية حديثة، مفقودة في سكونية اللوحات الكلاسيكية. فالمهم بالنسبة إليه أنه يستعيد إشارات المشهد التاريخي الحضاري،بالارتداد إلى الداخل ليخرجه من حيز صمته وليجدده أو يستنطقه بالبوح الانفعالي المباشر، ولهذا تتدرج الحركة العاطفية صعوداً وهبوطاً عبر تدرجات الحالة اللونية، من تلك التي تتجه نحو التلقائية من خلال اللمسات المتتابعة والكثيفة، إلى المساحات الهادئة التي يغلب عليها الاداء العقلاني، وبذلك فهو ينسج علاقة مزدوجة بين الاداء اللوني والملامح الهندسية المقروءة في الاشكال المعمارية القديمة.
facebook.com/adib.makhzoum