نعم، للمبدعين الراحلين كل هذا الأثر، فكيف وإن كانوا على درجة حكيمة في رؤيتها التي هي رؤية «ندرة اليازجي» الفيلسوف والباحث والمفكّر الذي غادرنا ولكنه لايزال باقٍ كروحٍ متّقدة وعقل لاتحدُّ حكمته بصيرةٌ أو بصر..
فيا أيها الحكيم.. لروحكَ السلام والطمأنينة والتسامح والمحبة التي طالبتَ به الإنسان كي يرتقي بأفكاره وحياته وأخلاقه.. بحوارهِ وعقلهِ وتفاعلهِ.. لروحكَ كل هذا، ولنا أن نعمل على ما طالبتنا به.. حوارنا الأخلاقي مع ذاتنا أولاً ومع الآخر ثانياً..
حوارنا القائم على أسس عقلية ونفسية وروحية سامية، وعلى معرفة الطريق المؤدي إلى التلاقي مع الآخر، والتفاهم معه على أساس الاعتراف بالتنوع المتأصِّل في جوهر المبادئ الإنسانية والكونية.
إنه ماأردتّ لنا منه، تأسيس بنية عقلية منفتحة وفاعلة وواعية.. بنيةٌ تصلح لإرساء قاعدة يتوطّد عليها صرح مجتمعنا الإنساني الذي لا تتكامل أبعادهُ إلا بالمحبة والحكمة والتسامح والسلام والطمأنينة الروحانية.
أردتَ لنا ذلك، بما قرنتهُ بالقولِ والفعل.. فعلُ الحكمة والقولُ النعمة... حكمتك بقولكَ عن نفسك:
«علمتُ أنني أمثّلُ ثقافة عقلية وروحية شاملة ومتنوعة في ظاهرها، ومتكاملة ومتآلفة في جوهرها. قوة تحيا في داخلي وتمدّني بقوة الحياة الواعية وتوازن الشخصية الحكيمة، وحدستُ ببصيرتي ما تشتمل عليه حديقة كياني من مفاهيمٍ وقيمٍ ومبادئٍ وعقائدٍ لاتتحقَّق في وحدةٍ أو تتكامل في انسجام، مالم أكن قادراً على إبداع تأليف بينهما. تآليفٌ يتناغم في نطاقِ تنوعات الروعة التي تنضوي تحت كنف الحقيقة الواحدة وبهاء اللقاءِ المضيءُ بألقِ المحبة، والحقّ. إن العقل الذي يزدهي بجمال التنوّع يتآلف في غبطةِ النورِ وسمو الروح».
إنه غيضٌ من فيضِ دعواتكَ الخالصة لجعلِ الإنسان عاقلاً لا جاهلاً.. متسامحاً لا حاقداً.. مُحاوراً لا منقاداً أو متأثِّراً أو مناوراً.. متآلفاً إنسانياً لا منفرداً أنانياً..
غيضٌ من فيض أبحاثكَ ودراساتكَ ومحاضراتكَ وإبداعاتكَ ودعواتكَ، ولجعل الإنسان كائناًٌ روحانياً، عقلانياً، كونياً. كائنٌ، يسمو إلى أن تصبح غايته من الوجود، غايتك ذاتها. الغاية سعيتَ إليها فنلتها و قلتَ عنها:
«وُجدتُ لأحقّق أنبل المبادئ الكونية الشاملة»
«غايتي من الوجود الأرضي، تكمن في المعرفة، ووجودي الاجتماعي من أجل تحقيق الغاية التي من أجلها وُجدتْ.. لأجلِ هذا، أضعُ موهبتي الماثلة في معرفتي وعملي، في خدمة الإنسان. هكذا أمتدُّ إلى الآخر وأتَّسع وأحقّق وجودي. أي عالميّتي وكونيَّتي الماثلة في اجتماعية أنسنتي.. وُجدتُ لأحقِّق أنبلُ المبادئ الكونية الشاملة، وعندما أدرسُ أعماق الكونِ بحكمةٍ ووعي، وأتوغّل إلى عمقِ نفسي، أعلمُ أن واجبي يتركَّز في حقيقةٍ واحدة تشير إلى انسجامي مع الكون، في غايتي الكبرى والعظمى التي تتحقَّق في عالمية الكينونة الإنسانية المُحقَّقة، بالتجسيد العملي لوجودي»..
أيها الحكيم.. قرأناكَ وسمعناكَ وها نحن نودِّعك ونخاطبك: لقد حقّقتَ غايتكَ من وجودكَ- وجودنا.. حقَّقت ذلك، رغم ألمكَ وشعوركَ بأنَّ وصاياكَ ذهبت أدراج جهلِ الجاهلين ممن فتكوا بوطننا وإنساننا وديننا وأخلاقنا وأرواحنا..