يأخذ الهم الإنساني مكانا واسعا في رؤى الشاعرة وليدة عنتابي ويؤرقها فيتحول إلى بوح تهدئه الموسيقا وتخبئه الرموز وتزركشه الدلالات فتبعث بنصوصها وهي تطلق في مساحاتها الواسعة خيول الدم وتشعل براكين الشوق تقول في قصيدة أطلق خيول دمي: ما بين ظلي والرصيف.. جدل مخيف.. ليل توسده السهاد.. وتسطحت فيه القباب كما الوهاد وحش تربص في ظلال توجسي..
وتتداعى الذكريات فتدخلها من باب الهواجس لتحولها إلى صور ثم تحرص أن تمزجها بالنغمة الموسيقية عبر تفعيلات مناسبة اقتطفتها من تفعيلات الخليل محاولة أن تلتزم بتكامل الموضوع رغم المشقة التي تلاقيها في خضم كل هذه الدلالات التي شغلت نفسها فيها فتأتي القصيدة مطرزة بالعاطفة التي كانت واحدة من مكونات النص الشعري تقول في قصيدة الباب: هو حفنة من رمل ورغبة.. أو جرعة من أحجيات.. هو صورة لظلال ذكرى أو جلوة للروح في كهف الرؤى..
وتبدو الفلسفة جلية واضحة في أغلب نصوص الشاعرة عنتابي إلى حد تسيطر أحيانا على العاطفة الشعرية فتحولها إلى رؤى وظواهر وتطلعات وفق ما تراه الشاعرة ملائما في تحولات الحياة الإنسانية وما يخالجها بسبب الاختلافات البنيوية في سلوك البشر فتفضل الشاعرة أن تصل إلى نتائج عبر تساؤلات ومقدمات تقول في قصيدة فصل السؤال …
أسائل هذا المساء المضمخ بالصمت.. عن سر ما يعتريني ويوغل في خلجات التوجس حتى الغياب.
وترى عنتابي في رثاء الشاعر بدر شاكر السياب رثاء للشعر والمشاعر نظرا لما يشكله هذا الشاعر من أثر في حياة الكتاب والأدباء على الصعيد الشعري والأدبي والثقافي باعتباره صاحب مدرسة شعرية حديثة تخصه علما أنها لا تنتمي إلى مدرسته ولا تشبهه في تكوين الرؤية والنص الشعري تقول في قصيدة الثياب الراحل:
رحل الغريب.. وعلى الخليج الصارخ إن داح الغروب.. يرثي الفقيد.. تموز يا صرح المنا هل من جديد.. ذاك الغريب يعود كرها للعدم.. هو والألم..
ويؤرق الشاعرة عنتابي مصير الأندلس الذي آل إلى الخسران بعد أن شهدت كثيرا من التطور على يد العرب والمسلمين فتستحضر أخر ملوك الأندلس أبو عبد الله الصغير الذي بكى كالنساء ملكا لم يحافظ عليه فكانت الخسارة بحجم لايقدر حيث كتبت بأسلوب يختلف قليلا عن قصائد المجموعة نظرا لضرورة النزول عند الحالة التي يفرضها الموضوع ويقبل بها الوجدان والخاطر قالت في قصيدة القبلات الأخيرة لعاشق عربي: قدر يداورني.. وأنتعل الطريق المستحيل إلى مداه.. عبثا أهجىء أحرف السر المعلق في سماه.. تحتلني جبلا من الأوهام ذاكرة التراب.. وتهيلني في رقصة الزلزال.. فوق السفح منحدرا اجاوز موت أزمنة الخراب.
تعتبر الشاعرة وليدة عنتابي من أهم الشاعرات السوريةت اللواتي قبضن على الجمر وحافظن على مكونات النص الشعري الحديث الذي التزم موسيقا الشعر العربي إضافة إلى اهتمامها بالفلسفة الشعورية وبمحسنات الشعر دون أن تلين عريكتها في وقت لم يبق من الشعر إلا القليل مع اهتمامها أيضا باللغة العربية وسلامة الإعراب.
يذكر أن المجموعة الشعرية من منشورات دار العراب تقع في 122 صفحة من القطع المتوسط.