ومن شمالنا إلى جنوبنا..أجدادنا كانوا يعلنون الأفراح و يقيمون الليالي الملاح لأسابيع طويلة حين يولد في القبيلة شاعرو كيف لا والشاعر الناطق باسمها و صوتها و عبقريتها و ناطقها الاعلامي وحامي حماها...
اليوم لو أردنا أن نقيم الأفراح لاحتجنا إلى كل دقيقة و ثانية من حياتنا,فما أكثر الذين يولدون أنفسهم شعراء قسراً و كراهية, طوعاً أم موهبة..في سورية أينما اتجهت ثمة شخص يطالعك من بين كل خمسة أشخاص و يقدم نفسه على أنه شاعر أو قاص أو روائي وفي المرتبة الثالثة أنه ناقد..الكل يدخل عالم الإبداع يريد أن يدلو بما لديه والأمر هين و سهل ,يكفي أن يكون لديك مبلغ من المال لا يتجاوز العشرة آلاف و أن تكون قادراً على الكتابة باملاء ليس بالضرورة صحيحة لتملأ الصفحات البيضاء التي تحتاج كل صفحة فيها إلى بضع كلمات ومن ثم تختلس لوحة مشهورة و تقترحها غلافاً لكتابك /لمجموعتك/لروايتك/ و إن كان لديك صديق له باع في الأدب أو الصحافة يعلنك أديباً أين منك..ويدبجلك مقدمة نقدية و بمجموعة عزائم و ولائم تبدأ مقالات المدير ومطبعة (الريزو) سوف تقدم لك مئتي نسخة و اتحاد الكتاب سوف ينتظر
طلب الانتساب.
ويلح السؤال..
نعم يلح السؤال:لماذا هذا الإقبال على الأدب..بل على الادعاء أننا أدباء و نحن لا نفك حرفاًمن حروفه..و يكبر السؤال إذا علمنا أن القدماءكانوا يقولون: أدركته حرفةالفقرأي من يسلك عالم الأدب والشعر...?
إذا الأمر ليس مادياًعلى الأرجح,بل هو غواية و رغبة وتوق للشهرة التي ينشدها الجميع..لا ننسى ما يسمى (البريستيج) أنا شاعرة أنا ناقد..وفوق هذا كله غياب النقد الحقيقي سواءالأكاديمي أم الثقافي وحتى الصحفي وتواطؤ الجميع أو أصبح ظاهرة حقيقية في حياتنا الثقافية والإبداعية ألا وهوأن المجال يتسع للجميع,و أن لا مصلحة لأحد بأن يقف ضد الآخر..أصبح النقد (ضداً)..
البعض يرون أن الزمن وحده كفيل بأن يغربل هذه التجارب و بأن يبقى ماهو جدير بالاحترام ..هذا صحيح إن كان لدينا نقاد حقيقيون قادرون على قول كلمة الحق.
ذات يوم كتب العقاد و المازني كتابهما الشهير (الديوان) وجاء بعدهما ميخائيل نعيمة ليكتب (الغربال)ولم يسلم منهما حتى أمير الشعراء ترى ماذا لو كانواالآن أحياء كم غرباًلا نحتاج و كم هشيماً نحتاج لحرق اليباس الورقي..أيها الأدعياء لكم وجه إيجابي واحد هو عجلة المطابع وعملهاو بالوقت نفسه تساهمون في أزمة ورق نحتاج إليه لطلابناو تلامذتنا..ومع ذلك ننتظر لعل في هذه الأكوام ما هوحقيقي..
**
محيي الدين البرادعي : يسقط الأدعياء مع أول حفرة
منذ عرف الانسان طريقه للتعبير عن وجوده من خلالها , كان الأدب بأساطيره وحكاياته وملاحمه وقصائده وتضرعاته وصلواته نتاج الفئة الأكثر وعيا والأبعد خيالاً والأعمق تفكيراً وتحليلاً وتأويلاً .
هذه الفئة لم تكن تنتمي إلى من ليس لهم مهنة . بقدر ما كانت توقد المصابيح في الظلمات وترفع الشموع في طرقات القوافل . وهل كان شعرنا العربي الباذخ في قيمته والمتقدم في لغته , والضارب في أعماق التاريخ بقدمه وأولويته إلا نتاج تلك الفئة الخالدة .
فعندما نذكر الأعشى وطرفة والنابغة وقيس بن الخطيم الحادرة والشماخ وحميد بن ثور وعشرات الخالدين الاخرين الذين رسموا بصمة الإنسان العربي في الوجود . نذكر الجدية والانتماء والرهافة والقدرة والتعب والمكابدات التي مارسها هولاء العظام ليخلفوا لنا هذا الدفق الهائل من جميل القول وباذخ العطاء .
نجتاز العصور لنصل إلى اللحظة الراهنة . ونسير ونسري في النهار والليل مع المبدعين الكبار من أدبائنا سواء كانوا شعراء أو مسرحيين أو روائيين أو كتاب قصة . ثم نتحول في الجيد من نتاجهم . هل يخطر على خلد أحد منا أن يسأل إن كان هولاء يمتهنون مهنة من ليس له مهنة ? أم نقول إنهم الفئة الأكثر سهراً وجهداًوالأعمق ثقافة والأطول سهراً .ولا أعرف إن كان مثل هذا الجهد القتال مهنة ? وأي مهنة ? أما إذا كان السؤال منصبا على أصحاب المواهب الضحلة والنتاج التافه الذي لا قيمة له . فنستطيع أن نطلق عليهم أي صفة إلا أن يكونوا أدباء .
لاتنسَ - أبدا - أن الأدب بكامل فروعه جحيم يحرق أهله . كما أحرق الشعر أبا تمام والمتنبي وبدر شاكر السياب ومن قبل وقبل كثير , منهم ابن زريق البغدادي وأبو حيان التوحيدي.
نخلص من هذه القفزات الطائرة والتي تحتاج إلى كثير من الدراية والصبر والتحليل ,إلى أن الأدب .. الأدب , أي الابداع الجاد الذي تنتجه طبقة الأنتلجنسيا هو نتاج فوق تسميات المهنة والحرفة .
إن تجوالا ولو مكثفا في مولفات المبدعين من أدبائنا تلهمنا أن نجد تسمية غير المهنة . أقلها الخلق والابداع .
الولادات المشرقة .. التطوير ..الخ
خطيب بدلة : أغرتهم المكاسب المادية
الأدباء الحقيقيون يقيمون الأدب مقام الوالد , يحبونه و يجلونه , و إذا توعك بكوا عليه ( من كل عين عريم ) . الأديب الحقيقي ربما بدأ حياته الأدبية بمزحة أو لعبة , أو مراهنة , و لكن المزحة تكبر , و اللعبة تصبح خطيرة جداً , و تسبب لصاحبها الكثير من المتاعب , حتى ينطبق عليه قول الشاعر :
صار جداً ما لهوت به
رب جد جره اللعب
الأدباء القدامى كانوا يكتبون و ينشرون من دون مردود مادي , و إذا حصلوا على مردود فهو ضعيف جداً , أو كما كان حسيب كيالي يكني عن ضآلته بقوله ( قرد و فلت ) !و لذلك لم يهب أحد من غير الأدباء لمزاحمتهم على المنابر و مساحات النشر المخصصة لهم . اليوم أصبح الحال مختلفاً جداً , فالصحف تدفع للكتاب مكآفات , و اتحاد الكتاب و اتحاد الصحفيين فيها مزايا لا تعد و لا تحصى , من الطبابة إلى التقاعد إلى مهمات السفر و المشاركة في المهرجانات و النزول في الفنادق الفخمة , و لذلك شرع أولئك الذين لا مهنة لهم بالتدفق على أبواب مؤسسات النشر متأبطين من الكتابات السخيفة العامرة بالأخطاء اللغوية و الإملائية و المنطقية ما لا يحسب الحاسب , و يزيد هؤلاء الطين بلة بأنهم يلجؤون إلى أصحاب الأمر و النهي ليتوسطوا لهم لدى رؤساء التحرير قي الصحف و المجلات و الاتحادات النقابية وتبدأ الهواتف و الموبايلات رن رن رن .. مرحبا الله يخليك دبر لنا فلان , انشر له كم قصة و كم قصيدة و مقالة , ترى الشاب آدمي و حباب و فوق هذا كله أخوه بيكون جوز ابنة أختي ..!
و هكذا يا سيدتي , كم تلفون , و كم رسالة مكتوبة , و كم واسطة , و إذا بجيش عرمرم من هؤلاء الذين لا مهنة لهم يزحمون المؤسسات الأدبية و الثقافية و الصحفية حتى ما عاد الذين يقيمون الأدب مقام الوالد يجدون موطناً لقدم يدعسون عليه .
الأنكى من هذا كله أن معظم هؤلاء قد تناهى إلى سمعهم أن كتابة الدراما التلفزيونية تدر على صاحبها دخلاً لا يستهان به , فاتجهوا اليها , برؤوس و من دون رؤوس , و من خلال تجربتي في الدراما أؤكد لك أن عددهم يساوي بضعة أضعاف عدد كتاب الدراما الحقيقيين ,و على قولة أهل حلب في الأمثال : خود من هالجبن العزيزي و سيخ!
حسن حميد : لايعرفون مستواهم
بات لايدهشني شيء , وأنا أرى الفوضى , واللامعقولية واللامبالاة تخترق الاشياء والكائنات كلها ... ودونما استثناء ... فكل ما كان مدهشاً , وغريباً . ونيائياً ... صار واقعياً ... ومألوفاً ,وقريباً , وسهلاً ...
فإن قيل لك إن هذه رواية كتبها جاهل , أمي , لم يعرف طريقاً إلى مدرسة ... صدق وإن قيل لك إن هذا الديوان المضبوط وزناً وإيقاعاًوتركيباً وجمالاً ... كتبت قصائده جاهلة . كل معاناتها أنها مطلقة ... فصدق , وإن قيل لك إن كائناً لم يقرأ جريدة في حياته ولم يدخل مطبعة في يوم من الايام ولم يحرر عموداً في مجلة حائط مدرسيةولايعرف ( البلاك ) من الاسطرلاب .. وصار رئيساً للتحريرفصدق أقول هذا وقد تردد في بالي سؤالكم عن الأدب وقد غدا حيطاً واطئاً تخطاه ويتخطاه كل من هب ودب من دون مصداقيةومن دون سند سواء أكان ذلك علوقاً بالموهبة من جهة أو بالمكتوب من جهة أخرى ...
أنا شخصياً لست ضد تواجدالمستويات في الكتابة ولست ضد تواجد المستويات في التجارب الادبية ... ما أنا ضده تماما هو التعدي على الأدب , التعدي على الابداع ... فقد صارت كتابة الشعر والرواية والقصة القصيرة عمل من لاعمل له ... لا بل أرى أن لا مهنة للمتقاعدين سوى الكتابة ... وهم يعلمون جيداً أن ما يكتبوه لامستوى له ولاقيمة هذه أذية , أعني انتهاك حرمة الادب والابداع , والأذية الثانيةتتمثل في أن هؤلاء الجهلة يريدون الكتابة في كل شيء ... أعني في كل الأجناس الأدبية دفعة واحدة وفي كل الاتجاهات والقضايا والموضوعات وهذا امر لايحتمل وقد باتوا من حملة الحقائب التي لاشيء فيها سوى الهواء المكتوب ...
- أذية ثالثة هو آن هؤلاء الجهلة يعملون من داخل مقولة ( اكذب اكذب حتى تصدّق ) .. فهم جماعة الجهل النشيط الذين تراهم في كل المنابر والمواقع الثقافية ... تجدهم في التلفزيون . والاذاعة , والجريدة , والمجلة , والندوة , والامسية , والمؤتمر , والملتقى .. وحتى في الامكنة المخصصة للحوارات الضيقة .. جهلة لديهم فرط نشاط في جميع مواقف الاخرين ... ومعرفة كل المنابر والمواقع المعنية في الثقافة وقد حجبوا بجهلهم الاسماء الحقيقية ولو بشكل آني ...
والأندية الأكبر , وهي الرابعة , أن بعضاً من هؤلاء الجهلة باتوا يمثلون سورية في المؤتمرات والملتقيات والمهرجانات ... وهذه كارثة قوميةأو قل كارثة وطنية والتصدي لها واجب قومي ووطني ... والسكوت عنها خيانة وطنية وقومية وليست خيانة ثقافية فقط .
حنان درويش : الأدب موهبة لا مهنة
العمل الأدبي كما قيل هو التعبير عن تجربة شعورية و نقلها في صور موحية , و هذه التجربة بحاجة إلى ابداع حقيقي , و احساس غني , و ثقافة.
الأدب بالاساس ليس مهنة يعتاش منها , و انما هو موهبة فكثير من الادباء يمارسون عملاً في الحياة اضافة الى عمل الكتابة و التأليف , فهذا طبيب و هذا مهندس و تلك مدرسة .
و لو أردنا ان نسبر عالم الأدب و الادباء على امتداد الساحة السورية لوجدنا ان اكثر من 90 بالمائة ممن يكتبون في مجال القصة و الشعر والرواية والنقد و المسرح و البحث هم في واقع حياتهم يعملون في احدى وظائف الدولة , أو يزاولون صفقة ما . اما مقولة ان الادب اصبح مهنة من لا مهنة له , فهي صحيحة الى حد بعيد . فقد كثر المتسلقون و المناورون و البعيدون عن الابداع والثقافة . يسرق هؤلاء من هنا و هناك , و يتحايلون على الافكار الواردة في بطون الكتب و المجلات . و يصادقون الانترنت عله يزودهم بما يريدون من موضوعات من أجل ان يشار إلى الشخص بالبنان , تجرى معه الحوارات و اللقاءات . فيصبح اسماً معروفاً دون ان يدفع ضريبة هذا الاسم , ودون ان يتعب أو يقرأ أو يسهر أو يطلع . و هكذا و من فراغ و خلال فترة قصيرة تطالعنا الصحف باسمه الجديد .. المؤلف فلان الشاعر فلان انني أرثي لحال دور النشر لكثرة ما يزج فيها.و لو استطاعت هذه الدور لقالت : ابعدوا عني كل غث ارجوكم . لا تدخلوا حرمي إلا النظيف , الجميل , النفيس , القيم أما الترهات فالابداع منها براء.
الحال لا تسر و الواقع ينوء بحمله و الاقلام الحقيقية تكاد تضيع في زحمة الزيف , الخوف كل الخوف ان يبقى الزمن لمن اتخذ من الادب حرفة , فاستمرأ اللعبة متكئاً على ما قيل : ( ادركته حرفة الادب ).
مجيب السوسي: دور النشر ساهمت في هذه الظاهرة
في اعتقادي الجازم أن الموهبة تولد طيعة مع الانسان وتنمو لديه كما تنمو الاعضاء الاخرى والحواس وتصقل هذه الموهبة فيما يسمى بالتجربة ضمن إطارمحتواها الفكري والأدبي شعراً أم قصة أم رواية واستطيع القول إن وسائل النشر التي تفتح ذراعيها للقاصي والداني تحفز الكثيرين على ركوب خيول الكتابة ومن المفارقات العجيبة أن هذه الوسائل التي تمنع هؤلاء .
سهولة تسنم المنبرية لاتمتلك أدوات النقد الموضوعي الذي يغربل الغث من الثمين لهذا تجد دافقة وغائمة عبر هذه المنافذ التي هي في الأصل بوابات للشهرة الحقيقية والعرب في أعماقهم يميلون إلى متنفس الشعر وكل فرد يظن أنه كون إبداعاً متميزاً خصوصاًحينما يرى ما كتبه منشوراً أو مطروحاً في سوق الشعر المتداخل .
وتساهم دور النشر أيضاً في هذه المرارة القاسية وهمها الأول هو الكسب والتجارة وهي في متناول طموح الكثيرين ممن يودون النشر حيث يلزمهم فقط تسجيل مخطوطهم في وزارة الاعلام التي تحوله بدورها إلى اتحاد الكتاب العرب للقراءة العابرة فيما يلعب الاتحاد دور القاضي المتزن العادل حينما يكون الاصدار من خلاله فتكون اللجان القارئة دقيقة وموضوعية ولديها ضوابطها الصارمة في هذه الاصدارات . مهما يكن من أمر فإن كماً هائلاًمن الاصدارات الشعرية على سبيل المثال تتدفق على الساحة الادبية لاهثة للوصول إلى ساحة الشهرة وهذا التدفق لايستقر بشكل سوي ما لم تتوفر مدرسة نقدية معبأة لفرز الشعر الحقيقي ورفض الركام المتدني بذلك نأمن ونطمئن إلى أن الشعر بخير وهنا لابد من الاشارة إلى أن ظهور خامات أدبية لها شهرتها وموقعها وقدرتها في دائرة الشعر المتميز على الساحة العربية كذلك فإن قصب السبق في رأيي للشعراء السوريين الذين يمتلكون أدوات ابداعاتهم ولانريد أن نذكر الأسماء فهي غنية ومعروفة وتكاد تكون كمدارس متفوقة في هذا المجال .