في حين اعتبرها باحثون أميركيون بأنها (فن سياسي) لا يتقنه الرئيس الأميركي أبداً.. وقد يبدو ذلك واضحاً من خلال ردود الفعل الدولية على عقوبات هذا التاجر الأميركي الذي امتلك صلاحيات رئيس أكبر الدول الاقتصادية في العالم.. فراح يناطح الصديق والخصم في العقوبات على حد سواء، وابتعد عن الاستراتيجيات في استخدام هذه الأداة (الجارحة اقتصادياً) دون حتى أن ينتبه إلى الأصابع الأميركية.. بل ضغط ترامب أكثر بالحد الاقتصادي بما من شأنه تجويع الشعوب والضغط على الدول وابتزازها سياسياً وإذعانها، كما استخدم الرئيس الأميركي العقوبات لترميم الخسارات العسكرية لواشنطن خاصة في الشرق الأوسط..
فبعد تراجع الإرهاب في سورية واستعادة دمشق لمعظم الأراضي بفضل تقدم الجيش العربي السوري ومساندة الحلفاء والعجز الأميركي عن تحصيل أهداف سياسية من الحرب على سورية، جدد ترامب (قانون سيزر) للعقوبات ووسع نطاقه في محاولة لضرب الخاصرة الاقتصادية لصمود الشعب السوري..
مشهد العقوبات هذا هو ذاته في إيران منذ سنوات، وسنراه قريباً في العراق.. العنجهية الترامبية تمددت حتى روسيا والصين وتضرر منها الأوروبيون.. فمعظم الدول لم تسلم من سوط ترامب الاقتصادي.. فهل بات الدولار طرفاً سياسياً قادراً على فرض أجندات واشنطن السياسية على الدول؟!.
كي نجيب عن أي سؤال فيما يخص لجوء ترامب للعقوبات علينا أن نحلل أولاً لماذا يستخدم هذا الرجل غريب الأطوار هذه الأداة وفي هذا التوقيت بالتحديد؟.
تبدو الإجابة واضحة من جردة حساب بسيطة لجدوى السياسة الأميركية خلال العشر سنوات الماضية، فالخسارة العسكرية لواشنطن في سورية، قد تكون زادت من شراهة ترامب وجوعه لإحداث ثغرة في تطور التعافي السوري سياسياً وميدانياً، وهذا الحال ينسحب على إيران وكل دول محور المقاومة، كما أن الطبيعة الذهنية لترامب تجعله يتفاخر بهذا الهوس باستخدام العقوبات، ولا يدَّخر وسعاً في التأكيد عليها.. فهو شخصياً من أشار إلى (العقوبات) في 34 تغريدة منذ أصبح رئيساً، وهنا يرى بعض المحللين بأن ترامب القادم من عالم رجال الأعمال لا يمكن أن يكون سوى رجل مال, وليس رجل سياسة, فهو يقدس النقود ويعتبرها أداة تأثير عالمية.
كما أن نفوره وتخوفه من مشهد التوابيت للجنود الأميركيين وما لهذا التصور المحتمل في الشرق الأوسط من تأثيرات على انتخاباته يجعله يتلطى وراء العقوبات الاقتصادية، ناهيك عن أن هذه العقوبات قد تكون مخرجاً يحفظ ماء وجهه حين يتعرض لضغوط من قبيل (يجب أن أفعل شيئاً) وهو الأمر الذي بات مكرراً في السياسة الأميركية الخارجية التي فقدت جزءاً كبيراً من وزنها العالمي.
ضربة سيف
(الساموراي) الاقتصادي!!
لا شك أن لجوء ترامب إلى العقوبات الاقتصادية دون قياس مدى الجدوى سيضر باقتصاد أميركا ومكانتها العالمية أيضاً، فهذه العشوائية قد تدفع الدول إلى استبدال الأنظمة الاقتصادية لها بما يحميها من تجبر الإدارة الأميركية واللجوء إلى حلول مبتكرة, وهذا من شأنه إخراج واشنطن من التراتبية العالمية للاقتصاد وتآكل القوة الأميركية.
العديد من المحلليين والصحفيين الاقتصاديين أشاروا إلى سلبيات فرض العقوبات الجائر والعشوائي المرتبط بلحظات الغضب والهيجان السياسي للرئيس الأميركي على الأفراد والمؤسسات والدول حول العالم والذي من شأنه أن يدفع بها إلى إيجاد الحلول البديلة الاقتصادية بعيداً عن واشنطن, وقد فعلتها روسيا سابقاً عندما تجاهلت الدولار وذهبت للتبادل التجاري مع تركيا على أساس العملة المحلية, وهو يضعف العملة الأميركية ويؤثر على ما تعتبره واشنطن أمنها القومي حول العالم.
يقول ريتشارد نيبو، الباحث في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا: (إذا كانت أصابع الاتهام ستوجه لأحد بزعزعة اقتصاد أميركا، فالأولى بها أن توجه إلى ساكن البيت الأبيض الذي بات (يعتقد أن العقوبات تصلح كبديل عن السياسة الخارجية).
ويقول ماثيو ليفيت الذي عمل في منصب مساعد نائب وزير المالية للمخابرات والتحليل في إدارة جورج دبليو بوش: (العقوبات وحدها لن تحل مشكلتك أبداً يا ترامب، ما لم تستخدم إلى جانبها أدوات أخرى).
من الواضح أن الجميع المختص في الشأن السياسي والاقتصادي داخل واشنطن وخارجها بات يدرك بأن الرئيس الأميركي يستخدم العقوبات لتعويض أي نقص سياسي، وتحقيق انتصارات وهمية دون أن يكون هناك ما تم تحقيقه عسكرياً وسياسياً، ودون تمييز بين الحلفاء والخصوم، حتى أن دول الناتو قد وصل البل الاقتصادي للعقوبات إلى ذقنها، فكم مرة سمعنا ترامب وهو يذل أردوغان قائلاً له (سأنتقم منك بليرتك التركية إن خرجت عن الطاعة الأمريكية)..عبارات ترامب الانتقامية ورشقه الدول بالعقوبات الاقتصادية قد يدفع إيران مثلاً لإيجاد بدائل اقتصادية مقاومة لعقوبات ترامب.
لكن اللافت أن أوروبا أيضاً متضررة من عقوبات واشنطن فعندما يعاقب دولة ما فهو يضغط أيضاً على حلفائه ويفرض عليهم اتباع سياسته الاقتصادية، ولأجل ذلك نجد أن أوروبا بدأت بتجاوز المنظومة الحالية للمعاملات الدولية فخلال العام الماضي، طرح الاتحاد الأوروبي (أداة دعم التبادلات التجارية)، وأطلق عليها اختصاراً اسم (إنستيكس (INSTEX))، كبديل لشبكة الاتصالات العالمية بين البنوك (Swift) التي تسهل أغلبية المعاملات المالية الدولية، دون التقيُّد بالدولار الأميركي، وهو ما اعتبرته واشنطن تحدياً واضحاً لها.
يقول بيتر هاريل، خبير العقوبات في (مركز الأمن الأمريكي الجديد) إن أوجدت أوروبا الـ (إنستيكس (INSTEX)) فلننتظر الأكثر من فنزويلا وكوريا، وتساءل مستهجناً: (هل وصلنا الآن إلى النقطة التي سيستثمر فيها كل من الخصوم والحلفاء في هذه الأدوات التي تتيح لهم الخروج من تحت مظلة الاقتصاد الأميركي).
يسود تشاؤم واضح في الأوساط الأميركية الاقتصادية ففي حال فوز ترامب بولاية ثانية هذا معناه استمرار سياسة العقوبات الاقتصادية على الدول، وهو ما سيضاعف خطر تراجع العملة والاقتصاد الأميركيين، وفي الواقع لا يعد ترامب أول رئيس أميركي يستخدم العقوبات فهذه الأداة كما قلنا سابقاً تعتبر (فناً سياسيا أميركياً) شريطة أن تكون له أهداف ووسائل مساعدة سواء دبلوماسية أم عسكرية، ولكن الرئيس الحالي أفرط في استخدامها مقارنة بالرؤساء السابقين.
يرجع تاريخ توسيع العقوبات الاقتصادية الأميركية إلى عام 2001 حيث كانت بدعة جورج بوش الابن لخنق اقتصاد الدول التي وضعها في أجندة استهدافاته.
وتظهر الإحصاءات أن ترامب وقع في المتوسط أكثر من ألف عقوبة جديدة سنوياً، مقارنةً بحوالي 500 في عهد أوباما، وحوالي 430 في عهد جورج دبليو بوش، وإذا كان وزير الخزانة ستيفن منشن شخصياً يخصص (أكثر من 50%) من وقته للعقوبات وقضايا الأمن القومي، فليس من المستغرب أنه خلال عامه الأول في منصبه تحدث عن فرض عقوبات تزيد بنحو 20 مرة عما فرضه وزيرا الخزانة في عهد أوباما طوال فترتي خدمتهما.
بل أكثر من ذلك فإن إدارة ترامب أضافت حوالي 1500 من الأفراد والكيانات إلى قائمة العقوبات، أي ما يزيد بنسبة 50% عن أي عامٍ سابق، بحسب جوستين موزينيتش، نائب وزير الخزانة الأميركي.
ومنذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض فرض عقوبات على أكثر من 2800 من الأفراد والكيانات والسفن والطائرات، ففي عام 2018 فقط استخدمت إدارته هذا النهج بوتيرة تفوق ما فعلته أميركا خلال الـ 15 عاماً الماضية.
اليوم تتخوف التقارير والدراسات الاقتصادية والسياسية الأميركية من فوز ترامب بولاية ثانية لأن ذلك معناه استمرار عشوائية العقوبات الاقتصادية في نهجه ما قد يخرج واشنطن من الترتيب الأول للاقتصاد العالمي وخروج الحلفاء من مظلتها الاقتصادية، وبالتالي انهيار الدولار وتغيير ملامح النظام العالمي الاقتصادي كما تغيرت من قبل ملامح خريطة السياسة العالمية بهزائم أميركا في سورية ومنطقة الشرق الأوسط، فضاعت هيبة القطبية الأحادية وبزغت أقطاب متعددة من رحم الأزمة في سورية.. إلا أن ترامب لم يدرك أن سيف العقوبات أكثر حدة، فهو كما سيف الساموراي من شأنه تقاسم الضربة بين السياف والخصم..