فإنه لا يُفرّق بين التمرة والجمرة» بهذه المقولة يضع محمد حسنين الهيكل اصبعه على الجرح النازف.. هم يريدوننا أن ننسى كل ذلك وأن نغرق في صراعاتنا وتصبح المشكلة بيننا وليست معهم!! ولكن واجبنا الوطني والقومي يدعوننا بإلحاح للتذكير وتصويب الاتجاه دوما حتى لا تنطلي الأمور إلا على من أراد متعمدا السير بركابهم وبعكس مصالح الأمة!!.
فنظرية بن غوريون أن أمن إسرائيل يتحقق عندما تكون الأقوى عسكريا من أي تحالف عربي محتمل والتي أطلقها يوم الإعلان عن قيام «دولة إسرائيل»، تعدّلت لاحقا ليُضاف إليها نظرية انهيار المجتمعات العربية وتمزقها وضعفها كأفضل استراتيجية لضمان أمن إسرائيل واستقرارها، إذ أدركوا أن أمنهم لا تحميه جبال ولا أنهار ولا جدران أمام تطور سلاح الصواريخ وإنما يحميه تمزيق البلدان العربية وتفتيتها!
وفي شباط 2011 نشر الكاتب الأمريكي «مايكل كولينز بايبر» مقالاً في موقع «أمريكان فري برس» أشار فيه إلى بحث نشرته دورية المنظمة الصهوينة العالمية المعروفة «كيفونيم» بقلم الصحفي الإسرائيلي «عوديد ينون» المرتبط بالخارجية الإسرائيلية، ودعا فيه بوضوح إلى نشر الفوضى في العالم العربي، وإحداث انقسام في الدول العربية من الداخل إلى درجة تصل إلى «بلقنة» مختلف الجمهوريات العربية وتجزئتها إلى جيوب طائفية!!. وهذا كان ترداد لذات الأجندة التي طرحها البروفسور الإسرائيلي الراحل «إسرائيل شاحاك» وهدفها تحويل إسرائيل إلى قوة عالمية من خلال نشر الفوضى في الدول العربية وبالتالي إعداد المسرح في الشرق الأوسط للهيمنة الإسرائيلية!!.
هذه الإستراتيجية سبق وتحدث عن شبيه لها زبغنيو بريجنسكي وقبل أن يصبح مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي، وذلك في كتابه «بين عصرين العصر التكنوتروني» الصادر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي والذي دعا فيه للاعتماد على الأصوليات الدينية لمواجهة الخطر الماركسي، ودعا لهيمنة رجال الدين وإشعال حروب الأديان والطوائف، وتقوية التيارات الدينية التي لا ترى العالم إلا من زاوية الدين والخلافات الدينية!!. ويقول في إحدى تصريحاته : إن منطقة الشرق الأوسط ستحتاج إلى تصحيح الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس - بيكو ومقررات مؤتمر فرساي!!. وهذا ما يعملون عليه اليوم وبأياد عربية!!.
لقد كشف الصحفي البريطاني جوناثان كوك في بحث كتبه العام 2008 عن الدور الذي لعبته إسرائيل في تأجيج الصراع بين الحضارات ومحاولة جعل تلك المقولة أساساً لنظرة العالم إلى مكوناته الأساسية، لاسيما البلدان الإسلامية!!. وفي كتابه «إسرائيل وصراع الحضارات» يكشف كوك بوضوح محاولات إسرائيل استخدام مقولة صراع الحضارات لإعادة صياغة الشرق الأوسط بأكمله على نحو مواتٍ لها ولمصالحها!!. ويؤكد «كوك» أن إشعال الحرب الأهلية ودعوات التقسيم كانت على وجه التحديد هي الهدف الأول لغزو العراق، وأن هذا الهدف لم يوضع في واشنطن، وإنما في مكان آخر على بعد آلاف الأميال «أي تل أبيب».والحالة العراقية حينما تسودها الانقسامات الطائفية والدينية والعرقية تكون ممتازة بحسب النظرة الإسرائيلية!! فباعتقادهم من يسيطر على العراق يتحكم استراتيجياً في الهلال الخصيب وبالتالي الجزيرة العربية، فضلا عن موارده الضخمة!!. ويروي « كوك» أيضا أن إسرائيل منذ عام 1980 قررت اتباع سياسة ملخصها هو تقسيم كل شيء على الضفة الأخرى، أي في الجانب العربي، بداية من الفلسطينيين، ثم زحفاً إلى بقية الدول العربية!! ويتابع : إن الهدف هو بدء موجة من الصراع الطائفي انطلاقاً من العراق إلى كل المنطقة ..
ويقول كوك إن هدف إسرائيل من ذلك كان إدخال العراق في دائرة الاضطراب الدائم وزرع بذور شقاق طائفي إقليمي يقطع الطريق على دعوة القومية العربية ذات الطابع العَلماني، وإطلاق اليد الإسرائيلية بترحيل عرب 1948 من فلسطين إلى خارج ارض «إسرائيل الكبرى» بحجة أن الجميع في الشرق الأوسط يُبعِدون بعضهم البعض على أسس دينية وعرقية، فلماذا لا تفعلها إسرائيل!!. فأليس ما تقوم به الجماعات التكفيرية يصب في ذات الهدف الذي خطّطت له إسرائيل، إن لم تكن أداته!! ويشير كوك إلى أن أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 أتاحت فرصة ذهبية لأصحاب هذه الرؤية وجعلت الحديث عن صراع الحضارات وتفتيت الشرق الأوسط يخرج من مجالس الهمس إلى العلن!!.
الحالة العراقية هذه وما يسودها من انقسامات مذهبية وعرقية، موجودة مسبقاً في لبنان، واليوم يعملون بدأب لنقلها إلى سورية لنشر الفوضى والتفتيت في كل المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السودان قد انفصل قسمه الجنوبي مسبقا، وأن الفوضى تعم تونس وليبيا ومصر والصومال واليمن. وتخشى الجزائر من تصعيد الأوضاع الأمنية بعد المعلومات عن تهريب أسلحة من ليبيا إلى داخل أراضيها!!. وتجدر الإشارة هنا أن الأمريكان قالوا للمرحوم ياسر عرفات حينما رفض قبول شروطهم : عليك أن تعلم أنك من منطقة قابلة لتعديل الحدود والبشر في أي وقت!!. وفضلا عن ذلك، أفادت أبحاث صادرة عن مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ومعهد الدراسات السياسية الإستراتيجية المتقدمة، ومنذ زمن، أن إسرائيل تريد حصار العراق وسورية من الشمال من خلال وجودها في تركيا والتجسس عليها من خلال علاقاتها مع بعض الأكراد والحكومة التركية، وتستطيع إسرائيل التحرك ضد إيران من تركيا، وكذلك التغلغل في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى عن طريق تركيا!!. وقد سبق وتحدثتُ عن الدور الوظيفي لتركيا في مقال سابق..
وبحسب تصريح احد العاملين في مكتب لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي«وتناقلته بعض المواقع» أن إسرائيل تدفع باتجاه قيام حرب أهلية في سورية على الطريقة اللبنانية، وان مصلحتها تكمن في انهيار النظام الحالي دون قيام نظام آخر في مكانه!! ما يعني انهيار الدولة وإغراق سورية في الفوضى والاقتتال، وهنا تكمن مصلحة إسرائيل!!.
إذاً مخطط تفجير المنطقة بدأ من العراق، وهذا ما أكده المفكر الأمريكي «كولينز بايبر» بقوله : «إن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق تندرج في مخطط إقامة إسرائيل الكبرى وان اللوبي الصهيوني في الإدارة الأمريكية هو الذي كان يدفع بقوة واستماتة في اتجاه الحرب»!!. وهذا كله يصب في ذات المجرى الذي تحدث عنه الصهيوني الإسرائيلي- الفرنسي برنار هنري ليفي في كتابه «الحروب التي لا نحب» الصادر في تشرين الثاني 2011!!.
ولا ننسى كيف عبّر الجنرال احتياط «عاموس يادلين « رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، في تصريح له في أواخر كانون الثاني الماضي عن شماتته عندما قال : إن إسرائيل كانت مستعدة أن تدفع ثمناً غالياً يتمثل بالتنازل عن هضبة الجولان، مقابل إخراج سورية من محور سورية - إيران «الراديكالي» في حين أن ذلك من شأنه أن يَحدث اليوم دون أن ندفع أي ثمن!! إذا هو يراهن على ضعف سورية جرّاء ما يحصل ..
إنهم يخططون منذ زمن لتفتيت المنطقة طائفيا، وهذا لم يعد بسر!! ولكن التفتيت الطائفي يحتاج بالضرورة إلى طائفيين، والمؤهل لذلك هو الجماعات الدينية المتطرفة والمتعصبة والتكفيرية وكل من يُغذي الثقافة الطائفية سواء بالقول أو الكتابة أو الفتاوى أو الخطابات والمقابلات والأحاديث وغيرها.. فضلا عن النوعيات التي تدّعي الليبرالية والعلمانية والماركسية ولكنها بحسب وصف الكاتب الكبير «حنا مينه» كما «الفجل» حمراء من الخارج وبيضاء «أو بيت أبيض» من الداخل .. أو نوعيات مخروقة بوسيلة أو بأخرى، أو تحَرّكها دوافع وأحقاد وكيديات خاصة!! هؤلاء جميعا هم الرهان لجر المنطقة إلى الدائرة التي تخطط لها دوائر الصهيونية العالمية، وهي تفتيت المُفتت، لأن سايكس - بيكو قد شاخَتْ ولم تعد صالحة لخدمة هذه الإستراتيجية الصهيو- أمريكية ..فالتيارات الإسلامية والعلمانية واليسارية والقومية والليبرالية الحقيقية والمبدئية والصادقة مع ذاتها والغيورة على شعوبها والحريصة على أوطانها،لا يمكن أن تقوم بهذا الدور..ومهما كان تكوينها الفكري والثقافي والعقائدي فإنه لا يسمح لها بالسير في مشاريع تمزيق مجتمعاتها.. إن من يتولى هذا الدور هم من ينفذون العمليات الانتحارية والجهات التي تقف خلفهم وتدعمهم!!.
والكل يتذكر كيف استخدم الغرب إستراتيجية الدين وتشجيع التطرف والتعصب الديني من كافة الأديان، في حربه لمجابهة الإتحاد السوفييتي السابق،على قاعدة الإيمان والكفر، وهذا ذات الخطاب المُستخدم اليوم ولكن داخل الإسلام نفسه!!.
لا أعتقد أن أحدا أكثر سعادة من إسرائيل في هذا الزمن، وهي تقف وتتفرج على الوضع العربي، في مشهد أشبه بإحدى حلقات مسلسل «مرايا» عندما تمكن بطل المسلسل من خلق الفتنة والاقتتال بين أبناء القرية الذين كانوا مُوَحَدين ضده، فدارت المعركة ووقف البطل على شرفته يتفرج ويقول : يا سلام ما أجمل هذا المنظر!!.
وأعتقد أن إسرائيل اليوم التي تشكل العنوان الرئيس لكل ما يجري في المنطقة، وأهداف ما يجري، تتطلع إلى ما يدور ولسان حالها يقول : يا سلام ما أجمل هذا المنظر!! ولكن بعون الله، وشرفاء الأمة، لن تتمكن أخيرا من تحقيق ما خططّت له طويلا..
بقي أن أشير أن هناك من سبق ونشر على الفيس بوك بعضا من مقالاتي البحثية تحت اسمه، ودون أن يشير إلى صاحبها الأساسي!! أرجو أن يعود ويشير إلى ذلك.. وكل الشكر لصحيفة مصرية أعادت نشر إحدى المقالات سابقا دون أن تبخس حقي في ذكر الاسم..