تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الجهـــــل أكبـــــــر قيـــــــد للإنســـــــــان..

ثقافة
الاثنين 2-12-2013
 عقبة زيدان

في عام 2006 صدر «التقرير الدولي المعني بالدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة حول العالم»، وتقوم هذه الدراسة الدولية بمسح ميداني عالمي، هدفه تقييم مجموعة من الاستراتيجيات في مجال القراءة لتحقيق هدفين أساسين

هما: الأول اكتساب الخبرة الأدبية، والثاني اكتساب المعلومات واستخدامها. وقد أظهرت نتائج التقرير صدارة روسيا الاتحادية وهونغ كونغ وسنغافورة للترتيب العالمي للدول، بينما حققت كل من لوكسمبورغ وإيطاليا ورومانيا والسويد وألمانيا وهولندا وبلجيكا وبلغاريا والدانمارك نتائج أعلى من الدول الأخرى في العالم.‏

ليس مفاجئاً - طبعاً - ولا غريباً، ألا يتم ذكر العالم العربي ضمن ترتيب الدول القارئة. وليس من المدهش أيضاً أن نقرأ تقريراً عن مدى تقدم القراءة حول العالم، ولا يتم فيه ذكر العالم العربي، إلا في آخر القائمة. والسبب في عدم دهشتنا ومفاجأتنا، يكمن في أننا ندرك أننا أمة ليست قارئة، ولا يمكن لأي تقرير أو دراسة أن تغير من إدراكنا لواقعنا، الذي تردى إلى درجة خطيرة.‏

لا نهضة إلا بالكتاب، ولا حضارة إلا بالقراءة. وهذا واضح من تقدم الأمم القارئة بالنسبة إلى الأمم غير القارئة. إنها حقيقة ندركها تماماً، ونعي مخاطرها، ولكننا نشيح بوجوهنا عنها، خوفاً من كشف عيوبنا.‏

يُحكى أن الصاحب بن عباد وزير عضد الدولة بن بويه، كانت له خزانة فيها مائتي ألف كتاب ويزيد. وكان حين يسافر تُشد كتبه التي يحملها معه على ثلاثين جملاً. وكانت فهارس مكتبته تتألف من أربع وأربعين كراسة، كل منها عشرون ورقة لا تحمل سوى أسماء الكتب. وابن عباد واحد من كثير من المهووسين في عصره بالقراءة والكتب والإبداع.‏

ويحكى أيضاً، بعد أكثر من ألف عام على وفاة ابن عباد، أي في الزمن الحاضر الذي نعيشه، أننا نترجم سنوياً - كعرب مجتمعين نؤلف كتلة سكانية ضخمة تزيد على الثلاثمائة مليون إنسان - أقل ما تترجمه دولة صغيرة كـ «بلجيكا»، وأقل ما تنشره مطابعها. ثم إن حصة الفرد العربي من القراءة سنوياً لا تتعدى ثلاث دقائق. وأكثر من ذلك، أن إسبانيا عام 2004، أي في المئوية الرابعة لوفاة سرفانتس، قامت بطباعة كتاب «دون كيخوته» بتيراج يعادل ما طبعه العرب من عهد المأمون إلى الآن.‏

والمفارقة الخطيرة تكمن في التخيل الآتي: لو أن الصاحب بن عباد موجود الآن، لارتفعت نسبة القراءة العربية، ولدخل العرب في التقرير الدولي لمدى تقدم القراءة، وحصدوا مركزاً متقدماً. وما بالكم لو وجد الآن أيضاً ابن سينا وابن رشد ونصير الدين الطوسي، وآخرون من أصحاب المكتبات الهائلة والأفكار الكبيرة؟‏

ومما يحكى - ويثير الحزن والفخر معاً - أن حضارة آشور سبقت الإمبراطوريتين الإغريقية والرومانية، وقد ازدهرت قبل بناء الأهرامات في مصر. وشهد وادي الرافدين حضارة عظيمة، تمثلت في القصور والحدائق الرائعة والمكتبات الضخمة والثقافة العالية. وقد عُثر في المكتبة الملكية للملك آشور بانيبال، على آلاف من ألواح الصلصال والقطع التي عليها كتابات مسمارية.‏

ما الذي حدث فعلاً؟‏

لقد هاجرت الألفباء من بلادنا إلى اليونان، ومنها إلى العالم، ثم هاجر عدد كبير من المخطوطات العربي المكتوبة في العصرين الأموي والعباسي، إلى العالم الغربي، لتؤسس فكراً جديداً قائماً على العلم العربي العملاق في عصر ازدهاره وإشعاعه.‏

وهكذا فقد هاجرت معها القراءة العربية، وجلس العرب ينتظرون ما تنتجه الجامعات الغربية ومراكز البحث الكبرى فيما وراء البحار.‏

يعترف الغرب - مرغماً - بالعلم العربي وتألقه، ويشيد أريش فون دانكن في كتابه «عربات الآلهة» بفضل العرب في تأسيس الحضارة الغربية الحديثة، إذ يستعرض الآلات التي اخترعها العرب في عهد قوتهم، ويذكر أنها كانت الأساس في تطور صناعات الغرب والعالم، ليس بدءاً بمرصد ابن الهيثم الفلكي، وليس انتهاء بأبجدية الخوارزمي الرياضية، التي شكلت اللبنة الأولى لاختراع الحواسيب والمعدات الإلكترونية.‏

كيف نكتب مستقبلنا إذاً.. ونحن نواجه ضعفاً؟‏

بالقراءة المكثفة لشتى آداب وفنون وثقافات العالم وعلوم العصر. فالقراءة هي وسيلة العلم المجيدة. وبالقراءة تنفتح آفاق الإنسان، ويخرج من عزلته عن العالم، ويشارك برأيه في إنتاجه ككل. بالقراءة يعرف الإنسان موقعه على هذه الأرض، وأين مكانه في سلم التقدم.‏

بلا قراءة لا وجود حقيقياً.. ولا تقدم.. ولا مستقبل.‏

حسناً إذاً، هل علينا إلقاء اللوم على المؤسسات التربوية والثقافية وعلى الأسرة والمجتمع؟ يكمن الهدف الأساس في عمل المؤسسات في الترويج لأهمية القراءة، عبر نشاطات مكثفة، وترسيخ فكرة أن الجهل هو أكبر قيد للإنسان، وعندها ليس لدينا ما نخسره - كما يقول مايكل دينينغ - سوى أغلالنا، وأمامنا عالم يتعين علينا أن نفوز به.‏

كيف نفوز بهذا العالم؟‏

إنه عبر القبول بالتدفق الثقافي الكوني، واستهلاكه، ثم إعادة إنتاجه، لا عبر مقاومته ورفضه. علينا أن نبدأ بكتابة تاريخ كوني جديد، ونحن نقبل - بعقلانية - بمخاطر الشعوذة العولمية، وإنتاج دراسات ثقافية عبر-وطنية ذات طابع تحرري. وهكذا فإننا - وبالقراءة أولاً - سنخرج بنتيجة أن العولمة، إلى حد كبير، هي سياق ودائرة للتدفق الكوني للاتصالات والسلع المختلفة.‏

حكاية ازدهار العقل العربي ووصوله إلى أصقاع الأرض، هي إحدى الحكايات الكبرى في التاريخ العالمي، تأسست على القبول بالتدفق الكوني، ثم إعادة إنتاجه من خلال ثقافة عبر-قومية فائقة التقدم والتطور.‏

علينا الآن أن نعيد كتابة حكاية كبرى جديدة، كتلك التي كتبناها على جبين التاريخ العالمي، وشاهدنا العالم من أقصاه إلى أقصاه يفغر فاه تعجباً بها. وهذه الكتابة الجديدة تحتاج إلى خلق ثقافة وطنية قومية، لا تنبذ فكرة استهلاك الثقافات الخارجية، وتهدف في الوقت نفسه إلى حماية الثقافات الوطنية. وبالتحالف ما بين المؤسسات الثقافية التربوية والمثقف المؤثر والمجتمع والأسرة، تنهض ثقافة ناشئة تقدمية إيجابية، تعيد حكايتنا الجميلة والعظيمة.‏

هل لدينا ما نخسره حينها؟ بالطبع، نكون قد خسرنا جهلنا، وهذا لوحده حكاية كبرى.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية