« يُخطئ مَن يظنّ أنّ في هذه الرواية شيئاً من الخيال.» وهذا يعني أن الرواية تسرد أحداثاً واقعية لكن بمنظور تخييلي، وفق لعبة روائية مُتقنة، وتتطرق لحقبة تاريخية معينة، إذ أن مغامرة خاتونة ـ بطلة الرواية ـ ما هي إلا تلخيص سريع، موجع ومُعَرٍّ للأحداث العاصفة التي تَعرضَ لها بعض المُنكسرين والمُحبطين والمُهمشين، عبر تعدد للأمكنة، وطرح روائي مشوق، يتصدى فيه الروائي لتشريح تلك الأحداث التي تلبست عنوة تلك الشخصيات، فتلبست بها، وتلاعبت بأقدارها ومصائرها، فيعريها الروائي بحيادية تامة، بسلبياتها وإيجابياتها، أفراحها وأتراحها، انكساراتها وخيباتها، وبآمالها وآلامها.
تعالج الرواية إشكاليّة الحدود بأبعادها المختلفة، الحدود السياسيّة، الدينيّة، الفكريّة، الاجتماعيّة، عبر شخصيّات متعدّدة، منها ما يرتهن لتلك الحدود ويتقيّد بها، ومنها ما يتجاوزها ويتخطّى كلّ العقابيل الموضوعة، تتّخذ من بقعة جغرافيّة مُهمَلَة خلفيّة رئيسة تدور عليها الأحداث، تكون الشخصيّة الرئيسة امرأة عجوزاً مضحّية، تنتقل بولديها من قرية إلى أخرى لتحميهما من بطش الجهل والتخلّف وتبعدهما عن قيم الثأر المعمول بها. كما أنّها تتكتّم على قصّتها، قرابة نصف قرن.
فخاتونة التي كانت تكسر الخبز اليابس وتضعه في أكياس خيشٍ لتبيعه فيما بعد، لم تترك قرية من القرى المجاورة إلا ومَرّت عليها، كانت تُربي بقرة لتستعين بها على إعالة الأسرة، عملت أيضاً في تخييط اللحف، وولاّدة للحي، لم يكن يزعجها ما كانت تسمعه من هذه أو تلك بعد أن تساعد في توليدهنّ، من أنها قاسية القلب.
يتطرق الروائي كذلك لبعض الأفكار والقناعات المريضة فعندما يُرزق ابن خاتونة البكر بطفلة من زوجته، يسميها خاتونة على اسم أمه، لكنها تموت بالحصبة وبعض العلل الأخرى التي اكتسبتها من أمها وأبيها بالوراثة، فيسعد الأب لوفاة الابنة، لكنه لا يجرؤ على البوح بذلك، لأن الدين يحرّم مثل هذا الشعور، ولكن ما زاد من سعادته هو ما كان يتردد على مسامعه، من أن الآباء الذين يفقدون أبناءً صغاراً يدخلون الجنة مباشرة، فيتحول أولئك الصغار إلى عصافير في الجنة، فيدخلون معهم آبائهم وأمهاتهم، فصفقة كهذه مربحة بالتأكيد، إذ أمّن له موت ابنته الجنة في الآخرة، كما وقاه من مصاريف زائدة في الدنيا، وأكسبه تعاطفاً ممن حوله أيضاً.
وتبلغ الصدمة ذروتها، عندما يباغت أحد الرجال ابنته وهي تكنس أمام باب البيت، فيصفعها صفعة على خدها تذهب سمعها، لأنه كان قد تناهى إلى سمعه من أن الفتاة التي تقدم على فعلة كهذه، إنما تنشد رؤية عشيقها / حبيبها وهو عائد إلى البيت، ليتفقا على موعد، ويتلاقيا فيه، فيُنتهك العِرض وتكثر الأقاويل:
« فوجئت بأبيها، القادم على غير عادته من السوق باكراً، يسبّها ويلعنها، وعندما اقترب منها صفعها صفعة أوقعتها أرضاً، وضربت رأسها بالحائط القريب منها، ثمّ أمرها بسيل من الشتائم أن تدخل إلى البيت، وتوعّدها بالقتل لو أنه لمحها مرّة أخرى وهي تكنس أمام الباب.» ص 16
يُلاحظ أيضاً ما يفعله الشعور، مجرد الشعور بالغنى، وشعور الحلم أو بدء تحقيقه بالمكاسب المادية الطائلة، من ربح قد يتحقق جراء تجارة ما، بتخزين كمية كبيرة من البصل في المستودع، ومن ثمّ التفرد في السوق لبيعه بسعر غال، وهو الأمر الذي تَلبسَ العلاقة التي آلت إليها بين ولدي خاتونة،
تُتلف تجارتهما بسبب حريق قَدَريٍ، مقصود ربّما، يموت الأخ الأكبر، تاركاً خلفه ابنه الصغير، يرحل الآخر بعيداً عن أمه وابن أخيه، ليستقر به المقام في أرض أخرى، قرية كذلك، يتعرف على إمام المسجد فيها، ثمّ يموت هذا الأخير، يكتب في وصيته أن يتزوج من ابنته الوحيدة، يتزوجها بعد أربعين يوماً من وفاته، تبدأ رحلة خاتونة بصحبة حفيدها في البحث عن ابنها، تتعرض لمواقف ملحمية ومأسوية، طريفة وقاسية في الآن ذاته، تقودها المصادفة القدرية إلى رؤية الرجل الذي أحبته في مراهقتها، يُفاجأ القارئ بأحداث في غاية الأهمية، وتنكشف عقدة الحبكة الروائية على مَهَلٍ، رويداً رويداً، تعثر على ابنها، تُبارك زواجه، تدعوه للعودة إلى بلدته / قريته، فيرفض ابنها العنيد مثلها العودة، تقفل راجعة، تسرد لحفيدها في مشهد ليلي، شعري آسر، عبر تصوير سينمائي، مناجاتي خلاب، أن لماذا لم يعد عمه معهما، ثمّ تعترف له وهي تنازع الموت، بعد أن صوب أحد حُراس الحدود طلقة إليها، بسرها الدفين الذي أخفته عن أبيه وعمه.! أن من هي خاتونة ولماذا كانت قاسية القلب وهي تقوم بتوليد النسوة في القرية.. من هما ولداها، وهل حقاً هما ولداها، ولماذا هذا التنقل والتجوال، ومن هم أولئك الرهائن، وما قصة الثأر، ما هي تلك الخطيئة، خطيئة الخطايا، وما هو ذاك السر الهام / الأسرار الفرعية..؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ رهائن الخطيئة: رواية
ـ الناشر: دار التكوين 2009
ـ المؤلف: هيثم حسين