تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


نادم حتى القبر

ملحق ثقافي
11/8/2009م
قصة: علي ديبة

أتاه المرض فجأة، كعادته جاء دون حساب، أقعَدَه في فراشه مع حسرة من تلك الحسرات الموجعة، حساباتٌ كثيرة ظلتْ معلقة، وأين هو منها بعد قعود لا برء منه؟

لم يبق أمام بصيرته سوى بعضٍ من الأيام الراحلة، تستعيدها خواطره بين الفينة والأخرى, كلما دبَّ وهم النخوة في عروقه المتيبسة، أو تزحلق واحدٌ من أبنائه في منزلقٍ من رغباته الفتية.‏

في مثل هذه اللحظات المُغيظة، كان يعضُّ على ناجذيه، فتخرج الآخ من فمه مهروسةً، يعقبها زفرة لا شبيه لها بين زفرات الصدور، وحشرجة تماثل في خريرها آلة خلّفها الألمان وراءهم في معارك العلمين، بعد سيجارة من التبغ النقي، يضرمُها غير آبهٍ بوصايا الأطباء وتحذيراتهم.‏

كلما التفَّ حوله رهطٌ من أولاده وأحفاده، عاد إلى سيرة أيامه، تلك التي عاشها في قراعٍ مع زحام الحياة، يبدؤها توبيخاً يرمي به على ظهورهم، واتهاماتٍ تأتي على شغلهم وضعف حيلتهم.. نعوتٌ يرمي بها طولاً وعرضاً، يضعها أمامهم وبين أيديهم تارة ، وتارة يرشقها في وجوههم دون استحياء ولا خجل :‏

أنتم تتنعمون بما أتاكم به هذا الكف، أنتم لم تعرفوا خوفاً كان يتربّصُ بي كضبع كاسر، أين أنتم من أوجاع حفرتْ لحمي وأكلتْ من عظمي؟ سنواتٌ طويلة وأنا وراء مقود التكسي، أفنيتُ ثلاثة أرباع عمري في الشوارع والأزقة، أحتمل الدّم الناشف والبارد، أضحك لوجوه لا تستحق بصاقة مني، لماذا؟ حتى لا تعيشون فاقة كانت قدري.. وكيف يحيا من وجد نفسه لاجئاً على رصيف الدنيا من غير أب؟ لم أستسلم لسياط جلدتْ ظهري، ظلتْ حيرتي تأخذني جنوباً لترميني شمالاً، في محيط لا يرحم من لا يجيد السباحة فيه، اشتريت هذه التكسي، رهنتُ دمي قبل اقتنائها، حملته على كفي فزعاً من دولاب قد يعجنني بكل هذا الحديد.. لأجلكم دفنتُ طموحي، ترحّمتُ على أيام أفلتتْ نهاراتها ولياليها من بين أصابعي، فهل أنا نادم بعد هذا ؟ أجل، وسيبقى الندم يلاحقني حتى قبري..‏

حار الأولاد في ندم أبيهم، بالغوا في استرضائه، أخفوا عنه رفاهية وترفاً يستثيران غضبه، مع ذلك ظلت كلماته اللائمة تلاحقهم وتبعث عذابها غضباً في عروقهم..سأله ابنه البكر صراحة:‏

ليتنا نعرف سبباً لندمك هذا، ربما حققنا لك غاية رجوتها منا..‏

وبقي ذاك الندم سراً لم يبح به. بحثوا في مفردات والدهم المبطنة والمعلنة، عن رغبات كانت فيما مضى تسكن هواجسه، لم يجدوا غير سراب يرتطم بأسوار ذاك الندم العصي. استعانوا بأحبهم إلى قلبه، أصغرهم سناً، لقنوه بما يلزم من أشكال التودد، علموه أساليب التملق وأسبابه، وحين فرغتْ كفه وأفلستْ عواطفه، ضحك هذا الوالد الصعب، سخر من ابنه الشاب قائلاً:‏

بمثل هذا التمسح قد أرشحك لمنصب مدير عام أو حتى وزير، أما لماذا أنا نادم أشد الندم فهذا ما سأحمله معي إلى حيطان القبر.‏

ضحك الولد الأوسط حتى ترقرق الدمع في مقلتيه، ثم اجترأ وقال:‏

لعله نادم على أيام أمضاها أرملاً، لِمَ لا؟ لو وجد من تتزوجه وأمنا بكامل صحتها لفعلها.. ومن هي التي ترمي نفسها في وسط عائلة كبيرة كعائلتنا؟‏

بعد أيام جلس ابن آخر إلى جوار والده، شكا له هماً يشغله، ولعله سعى إلى استعطافه للوصول إلى غايته، تودّد إليه بلهجة لا تخلو من الرجاء:‏

واللهِ سلمى تحبك أكثر مني، ترى فيك رجلاً ولا كل رجال هذا الزمن، هي مستعدة للعيش معي في كوخ قَش، لكن خالتها، لا أدري ماذا أقول لكَ عنها، أو كيف أصفها وصفاً تستحقه، كل يوم تؤلب عائلة سلمى ضدي، كل يوم أتأخر فيه عن الخطبة تزيد على المهر قطعة ذهب، زادت على الأساور إسوارتين، وعلى الخواتم خاتمين، ينتابني خوف من عقد جديد قد تفكر فيه..‏

حكّ الأب ذقنه ، هرش رأسه قليلاً، فانزاحتْ الكوفية وتهدلتْ فوق كتفيه، غرس بصره في حدقتي ابنه العاشق، لامه مقرّعاً، أنبه على ضعف هو فيه، ارتفع صوته ارتفاعاً تجاوز الأبواب والشبابيك والحيطان. الجيران كعادتهم فتحوا مجاري أسماعهم، حتى لا تفوتهم كلمة يقولها جارهم الصعب:‏

كأن أحداً منكم لم يرثني في شيء، لعنة الله على المال هو الذي خرّب فيكم طباع الرجال، لو أنك عشتم الفقر الذي عشته لكان حالك وحال أخوتك أفضل من هذا الحال، مرّت العشر سنوات الأولى من عمري وأنا أظن أن البطاطا يقطفونها عن الشجر، حتى هذه الثمرة التي لا تعز على أحد من الناس عزّتْ عليّ، كما تعز البيتزا والهمبرغر على كل المحرومين في هذا العالم، فماذا تقول أيها النائح الباكي عن بقية الثمار من التفاح والدراق والمشمش والموز؟ تلك التي كانت حلماً بعيد المنال..لا أدري لماذا تذل نفسك كل هذا الذل؟ أ لأجل فتاة وزنها أقل من خمسين كيلو ..؟‏

تمكن الضحك من حناجر الجيران، قهقهوا غير آبهين بلسان قد يطال المستور من حياتهم، شتمته ابنتهم بصوت شبه مكتوم: كأنَّ هذا الشيطان يساوم على بقرة !! ثمَّ أصغوا علهم يسمعون فصلاً تمثيلياً لا يسمعون مثيلاً له بين كل تمثيليات الراديو . مرة أخرى ارتفع صوت جارهم، بدا وكأنه يأتي من وراء تلك المنابر التي تفرض نفسها على الكاره والراغب، صرخ الرجل بابنه العاشق:‏

من يحب لا يشترط، فتاتك سلمى ذاتها، هي التي تشترط عليك، لا خالتها ولا جدتها كما تتوهم, أول صبية رغبتُ بها، أو هي رغبتْ بي، اشترت لي حذاء من مالها، بعد مشوار مشيته إلى جوارها وكنتُ حافي القدمين، ووالدتك رحمة الله عليها، صنعتْ لي أكثر من ألف حجاب، لماذا؟ كي يعمي الله بصري وبصيرتي فأوافق أهلها على طلباتهم، وما وافقت . أنصحك بأمر واحد يتيم، ارفض كل شروطهم، وافرض عليهم شروطك، وإلا صرت بين أرجل الكبار والصغار من عائلة لعينتك سلمى .‏

قبِلَ الشاب نصيحة والده، غضَّ طرفه، قمع نبضاتِ قلبه، نسي أو هو تناسى نافذةً ارتسمَ زجاجُها في بؤبؤ عينيه. أيام قليلة مضتْ، لامتْهُ جدّتها, عاتبته على جفاء لا تستحقه حفيدتها، كذلك فعلت خالتها، تبرعتْ بكل الأساور والخواتم قبل رايةٍ حمراء يرفعُها يوم أمضت الصبية ليلتها الأولى في بيته.‏

أسابيع قليلة مضت، باح أبو محمد مضطراً لكنّته الدلّوعة بما لم يبح به لأولاده :‏

- سأظل ألعن عمراً أمضيتُه وراء مقود التكسي، سأبقى نادماً حتى حيطان القبر لأني لم أشترِ سيرفيس ..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية